العقل ومدارس الفلسفة الإسلامية .. الجزء الحادي عشر

“آراء أهل المدينة الفاضلة”(5)

تحدثنا –صديقي القارئ صديقتي القارئة– في الدردشة السابقة (ج 10)، عن المعلم الثاني: الفيلسوف الفارابي. ونواصل –في هذه الدردشة– بقيةَ حديثِنا عن الفارابي وكتابه: “آراء أهل المدينة الفاضلة”، لنواصل عرضنا لفلسفة الفارابي في المدينة الفاضلة.

ج. القول في العضو الرئيس: الحاكم الفاضل: رئيس المدينة الفاضلة

يقول الفارابي: “إن السبب الأول (الله تعالى) نسبته إلى سائر الموجودات كنسبة ملك المدينة الفاضلة إلى سائر أجزائها”. إن فيلسوف السعادة الفارابي لا يرى السعادة إلا في معرفة الأول في السماء، ثم في معرفة رئيس المدينة الفاضلة في الأرض، حتى يمكن أن تتحقق السعادة للمدينة الفاضلة وأهلها. فأفضل النظم السياسية يجب أن يحكمها أفضل الرؤساء: الحاكم الفاضل.

إذن رئيس المدينة هو أكمل أجزاء المدينة. “والسبب الأول نسبته إلى سائر الموجودات كنسبة ملك المدينة الفاضلة إلى سائر أجزائها. وكذلك ينبغي أن تكون المدينة الفاضلة، فإن أجزاءها كلها ينبغي أن تحتذي بأفعالها حذو مقصد رئيسها الأول على الترتيب”.

رئيس المدينة الفاضلة ليس يمكن أن يكون أي إنسان اتفق، وإنما ينبغي أن يتوافر فيه أنه إنسان تحققت فيه الإنسانية على أكملها، ويكون في أعلى درجات السعادة، اكتسب عقله –إن كان فيلسوفًا– جميع المعقولات وأصبح عقلًا بالفعل (أي عقلًا قد اكتسب المعقولات، بعد أن كان عقلًا بالقوة، أي كان لديه مجرد الاستعداد لاكتساب المعقولات).

بذلك يقترب من العقل الفعَّال ويصبح عقلًا مستفادًا (أي عقل بالفعل بعد أن كان بالقوة، وهو عقل الفيلسوف). وهو العقل الوسط بين العقل الفعَّال والعقل المنفعل (الذي هو عقل بالقوة)، ولا يكون بينه وبين العقل الفعَّال شيءٌ آخر، كان هذا الإنسان هو الإنسان الذي حل فيه العقل الفعَّال.

مخيلةُ الرئيس –إن كان ممن يوحى إليهم (= النبي)– يجب أن تتقبل ما يشرقه عليها العقلُ الفعَّال، وتعبر عنه بلغة محسوسة. فيكون الله، عز وجل، يوحي إليه بتوسط العقل الفعَّال. مثل هذا الرجل –الفيلسوف أو النبي– يكون رئيس المدينة والأمة والمعمورة الفاضلة. ويكون متصفًا باثنتي عشرة خصلة قد فُطر عليها.

خصال رئيس المدينة الفاضلة

اشترط الفارابي، في رئيس المدينة الفاضلة، شروطًا قلما تتوافر لبشر، فاشترط اثني عشر شرطًا، أن يكون:

1. تام الأعضاء.
2. جيد الفهم والتصور، لكل ما يقال له.
3. جيد الحفظ.
4. جيد الفطنة ذكيًا.
5. حسن العبارة.
6. محبًا للتعليم.
7. غير شره على المأكول والمشروب والمنكوح.
8. محبًا للصدق وأهله، مبغضًا للكذب وأهله.
9. كبير النفس، محبًا للكرامة.
10. أن يكون الدرهم والدينار وسائر أغراض الدنيا هينة عنده.
11. أن يكون بالطبع محبًا للعدل وأهله، ومبغضًا للجور والظلم وأهلهما.
12. أن يكون قوي العزيمة.

صفات الرئيس الثاني

لقد أدرك الفارابي نفسه صعوبة توافر هذه الشروط التي وضعها، فقال: “واجتماع هذه كلها في إنسانٍ واحدٍ عَسْرٌ”. فإن لم يوجد هذ الإنسان يكون الرئيس الثاني (يعني الخليفة أو الإمام) الذي يخلف الأول فيه ست شرائط:

• أن يكون حكيمًا.
• عالمًا حافظًا للشرائع التي دبرها الأولون للمدينة.
• أن تكون له جودة استنباط فيما لم يُحْفَظ عن السلف.
• أن تكون له جودة روية وقوة استنباط.
• وجودة إرشاد بالقول.
• ومعه صناعة الحرب.

 إن لم يوجد حكيم هلكت المدينة

فإذا لم يوجد إنسان واحد اجتمعت فيه هذه الخصال ولكن وجد اثنان؛ أحدهما حكيم، والثاني فيه الشرائط الباقية، كانا هما رئيسين في هذه المدينة. وإذا تفرقت هذه الخصال في جماعة من ستة أشخاص، كل خصلة في واحد منهم كانوا هم الرؤساء الأفاضل (حكومة جماعية أو مجلس رئاسي)، على شرط أن توجد الحكمة في أحدهم.

إن لم يتفق في وقت ما أن لم تكن الحكمة جزء الرياسة –أي لم يوجد حكيم– بقيت المدينة الفاضلة بلا ملك وكان الرئيس القائم بأمر هذه المدينة ليس بملك، وكانت المدينة تعرض للهلاك. فإن لم يتفق أن يوجد حكيم تضاف الحكمة إليه، لم تلبث المدينة بعد مدة أن تهلك. (هكذا تصبح الفلسفةُ ضرورةَ وجودٍ للمدينة؛ تبقى ببقائها وتهلك بعدم وجودها، في الأفراد والمجتمع).

في الدردشة القادمة –بإذن الله– نواصلُ بقيَّةَ حديثنِا عن الفلسفة الفارابية لنتعرف: المدن غير الفاضلة ومصائرها المحتومة.

مقالات ذات صلة: 

الجزء الأول من المقال، الجزء الثاني من المقال

الجزء الثالث من المقال،الجزء الرابع من المقال

الجزء الخامس من المقال، الجزء السادس من المقال