فن وأدب - مقالاتمقالات

حكايات حول العدالة.. قراءة في كتابات قاض وشهاداته – الجزء الثالث

يأتي الكتاب الثاني للقاضي بهاء المري وعنوانه “أغرب القضايا” ليقرب صاحبه أكثر من عوالم الأدب، موزعًا مادته بين ما يقارب القصة القصيرة والقصة القصيرة جدًا، وبعضه يرقى إلى أن يكون كذلك، رغم أن الكاتب لم يقصد على وجه التعيين والتحديد أن يكون ما ألفه هنا هو من قبيل هذا النوع الأدبي، وإلا ما أطلق عليه في عنوان فرعي اسم “يوميات قاض”.

صفحات من تاريخ القضاء المصري

في الحقيقة، لسنا أمام يوميات، فلا كل قضية تناولها استغرقت يومًا واحدًا، ولا هو عرج على طرف من حياته الخاصة، وربما أطلق عليها هذا الاسم أو الوصف لأنها، وعلى خلاف كثير مما ورد في الكتاب السابق، تتعلق به، أو هو كان القاضي الذي فصل فيها، وهو ما يوضحه في مقدمة الكتاب قائلًا عنها: “أحداث ووقائع عاشها قاض.. حكايات من الواقع لم يخامرها خيال، أتت بحلوها ومرها وشخوصها لتستقر أمامه على المنصة، ضمن آلاف أوراق متكدسة من قضايا متنوعة، نظرها حينًا بعين إنسان يرقب إنسانًا من خلال أحداث جسام، وضعته لسبب أو لآخر، بين براثن الاتهام، وحينًا آخر بعين قاض يطبق القانون بحرفية بالغة، ثم بعين الرحمة وإعمال العقل والمنطق في أحيان أخرى، ودائمًا بعين القانون الزاجر متى كان المجرم عاتيًا في إجرامه”.

لم يسعَ الكاتب من هذا إلى أن يزيد كتب القصص مجموعة، إنما دفعه انفعاله بما خبره، وإدراكه ما ينطوي عليه من معنى، إلى أن ينبه الغير أو الآخر، الذي لم يكن واقعًا في قلب هذه القضايا.

وقد جاء الإهداء كاشفًا لهذا الدافع، إذ يقول: “إلى من تسول له نفسه اتباع الشر، لعله يتفكر كثيرًا قبل أن يطأه بأقدام الرعونة”، لكنه توسل بالسرد لإيصال هذا المعنى، غير عابئ بتصنيف ما كتب، وإن كان هو في حقيقته ينحو إلى القص، أو ينزع إليه نزوعًا جليًا، يخرجه كثيرًا في هذا الكتاب من سمت القاضي، الذي عليه أن ينتقي ألفاظه بعناية كي تكون تعبيرًا لا لبس فيه عن الوضع القانوني أو الواقع أو الحقيقة وكذلك الموضوعية، إلى الأديب المائل إلى المجاز، والدائر في فضائه، غير معني بشيء سوى التقاط الحكاية من دفاتر مثقلة بأوراق التحقيق ومذكرات الدفاع، ووضعها في قالب فني إلى حد ما.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

يوميات قاض .. الواقع ساردًا

بهاء المري 2 1024x751 - حكايات حول العدالة.. قراءة في كتابات قاض وشهاداته - الجزء الثالثمما ساعد الكاتب القاضي هنا على أداء مهمته أنه اختار الغريب والشاذ واللافت والمفجع من سيل الحكايات التي تدفقت عليه في صيغة قضايا فصل فيها، فتوافرت له مفارقات وصور، وتهادت أمامه مصائر بشر، واكتملت سرديات واقعية، صنعها أبطال من لحم ودم، يشتبكون مع مرفق العدالة أو يشتبك معهم، فيؤثر فيهم بقوانينه وممثليه، ويرسمون جزءًا من تاريخه بما اقترفوه من خروج على القانون، أو بما لحق بهم من اتهام، قد يكونون منه أبرياء تمامًا.

في هذا الكتاب شفَّت العبارة وخفت، متخلصة من الشروط والتقاليد والاعتياد الذي يصيغ فيه قاض ما يكتبه، فحضرت المجازات على اختلاف ألوانها، وتركت فراغات لتصير الحكايات أدبًا وليست تقارير عن حوادث، ووجدنا راويًا عليمًا، وبدا الكاتب معنيًا أكثر بجذب القارئ أو إثارة استغرابه، ولم يتحرج في وصف فجاجة الواقع وقبحه، وبانت المسافة بين موقفه حكمًا بين المتخاصمين وهو جالس على منصة القضاء، عليه أن يتحرى النزاهة ويطرد من نفسه الانحياز، وبين انفعاله وانشغاله بحكايات إنسانية، حتى لو كانت مقززة أو حتى بشعة، فإن صانعيها هم أناس عاشوا بيننا، وبعضهم كانوا ضحايا لمجتمع يعاني من عوار شديد.

هنا تظهر ذائقة الكاتب ونفسيته متغلبة على موقفه قاضيًا، طالما أنه بعيد عن المنصة، وتخفف من القيود التي يفرضها عليه منصبه وموقعه بعد أن تقادم الزمن بهذه الحكايات المثيرة، وصار بوسعه أن يشير إلى أبطالها من دون أسماء أو بأول حروفها، موقنًا أن الأيام التي حملت في جوفها مزيدًا من الجرائم قد أنست الناس قديمها.

القضاء ولغة الإبداع

هنا ينتصر الكاتب حين يجلس أمام نص مختلف على القاضي المحكوم بتقاليد ونصوص والخاضع للتفتيش القضائي، والذي لا يعنيه أن يقيس مشاعره، إنما مدى التزامه بالقانون، وحفاظه على مظهر القاضي ودوره وصورته التي تعارف عليها الناس. فالكاتب يدرك أن القيمة الأساسية التي تقوده ليست العدالة، حتى لو كان عليه أن ينتصر لها بطريقة غير مباشرة، ولا القانون بنصوصه التي تعكس مصلحة الطبقة المهيمنة، إنما الحرية التي هي شرط أساسي للإبداع.

إن هذه اليوميات، والتي هي بالأحرى حكايات متقطعة، تضرب مثلًا ناصعًا على أن الأدب له قدرة ونفاذية قوية بوسعها أن تتغلب على قيود أي وظيفة، وأن من يبذل جهدًا في كبتها، أكثر مما يفعل في سبيل تنميتها، فإنه يخسر خسرانًا مبينًا، إذ أن بإمكانها الانفلات، فإن كان صاحبها ممعنًا وبارعًا في التعمية والكبت، فإنها تصبيه باعتلال نفسي من دون شك.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

حكايات من محاكم الجنايات

18 1024x680 1 - حكايات حول العدالة.. قراءة في كتابات قاض وشهاداته - الجزء الثالثلكن المسألة قد لا تعود إلى اختيار شخصي، فالحكايات الغريبة تضغط على أعصاب أي إنسان، وقد يثرثر بها من حضروا المحاكمات، أو قرأوا عن بعض تفاصيلها في الصحف، لكن أيًا منهم قد لا يعنيه أن يعيد صياغتها كتابة، حتى لو فعل هذا شفاهة بطرق مختلفة، كلما استعاد الحكاية أمام سامعيه، بما في ذلك الجناة بالطبع، الذين بوسعهم أن يسردوا حكاياتهم على مسامع رفاقهم في السجون، أو أولئك الذين يكون لديهم استعداد لسماعها بعد أن يقضوا مدة عقوبتهم، ويذهبوا بعيدًا عن السجن، ويلتقوا أولئك الذين قد يتذكرونهم أو يقبلون إقامة علاقة معهم.

لكن القاضي قد يكون أغنى أولئك الذين ليس بوسعهم جمع نثار هذه الحكايات المتتابعة، ممن يرومون عبرة أو عظة أو حتى تسجيل جانب من المسار الاجتماعي وتحليله في زمن ما، يبدو هنا جارحًا إلى حد كبير. فنحن أمام جرائم قتل يرتكبها زناة حتى في محارمهم، وبغاة وجناة، قتلوا وسرقوا ونصبوا واحتالوا وتاجروا في المخدرات وشهدوا زورًا، وخونة وفاقدو نخوة وديوثون وداعرون وشواذ جنسيًا ومتبادلو زوجات، ومتحايلون ومخادعون بلا أخلاق أو كرامة من أجل المال أو العيال، وواقعون في تدين مغشوش، ومضطرون للانحراف في سبيل توفير ما يسد رمقهم، ومتجبرون يتصرفون وكأنهم في غابة، ومدفوعون إلى الجنون تحت ضغط الحياة القاسية.

لا يوجد مجتمع بلا جريمة

من يطالع هذا الكتاب صغير الحجم كبير الفائدة، يعتقد أننا نعيش في مجتمع متهالك وآيل للسقوط، إذ إنها في النهاية هي تلك التي مرت أمام قاض واحد، ومن دون شك أن مثلها قد مر أمام قضاة آخرين في طول البلاد وعرضها، لكنهم لم يدونوها، تاركين إياها في سجلات المحاكم، ماثلة أمام أي روائي أو قاص يبحث عن موضوع كتابة، أو باحث اجتماعي أو قانوني.

لكن من يقفز إلى هذا الاستنتاج ينسى ثلاثة أمور أساسية هنا، أولها أن الكتاب يحوي حكايات وقعت على فترات متباعدة، حتى لو كانت قد كتبت في زمن وجيز. وثانيها أنه لا يوجد مجتمع بلا جريمة، بما فيها الغريب والشاذ منها. وثالثها أنه في مقابل هؤلاء المتورطون في الجرائم هناك أضعاف أضعاف ممن لم يسقطوا. ومع هذا فإن وجود مثل هذه الجرائم في مجتمعنا تدل على أن هناك خللًا ما، نتيجة الفقر والجهل وغياب التربية الأخلاقية.

نكمل الأسبوع المقبل إن شاء الله تعالى.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

مقالات ذات صلة:

الجزء الأول من المقال

الجزء الثاني من المقال

أدب تصفية الحسابات

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

*********

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. عمار علي حسن

روائي ومفكر مصري

مقالات ذات صلة