فن وأدب - مقالاتمقالات

حكايات حول العدالة.. قراءة في كتابات قاض وشهاداته – الجزء الثاني

في كل كتاب للقاضي بهاء المري نجده قد حرص على كتابة مقدمة أو تمهيد، وهي مسألة تعكس إدراكه أن ما يكتبه ليس قصصًا بالمعنى الأدبي، إنما نوع من الحكايات الواقعية، حتى لو صيغت بلغة أدبية، أو اتبعت بعض طرائق وشروط فن القصة القصيرة. فالكاتب هنا لم يفارق عالمه الحكائي الحيز الذي يمضي فيه عمله منذ التحاقه بالنيابة وحتى صار قاضيًا كبيرًا، فعالمه المهني يمثل النقطة المركزية التي تبدأ منها وفيها الحكايات وتنتهي إليها، وإن ساحت في الجهات الأربعة، عابرة للمدن والقرى والميادين والشوارع والحارات والأزقة والبيوت.

كتاب حكايات قضائية .. صور من حياة الأرياف

في تقديم الكتاب الأول يصف صاحبه ما فيه أنه: “قصص ومواقف لأناس طيبين بسطاء، وغيرهم شريرين ذوي دهاء، عشت بعضها خلال فترة من فترات عملي وكيلًا للنائب العام في عدد من بقاع الريف في مصرنا الحبيبة، وعايشت أخرى خلال ما نظرته من قضايا أثناء عملي قاضيًا، وغيرها مما قرأت في تراثنا القضائي الغني بالأحداث والمواقف ذوات المعاني والمغازي”.

هنا يحدد الكاتب مصادر حكاياته، ثم يبين فيما بعد دوافع كتابتها وهو “كشف بعض مستور النفس البشرية، وشيء من غرابتها ودقة أسرارها”، ليجعل من بغيته تلك حدًا فاصلًا بين القصة القصيرة بشروطها الفنية المتعارف عليها، والحكاية الأمثولة أو التي تنطوي على حكمة أو يراد منها استخلاص عبرة وعظة، وهي من المسائل التي تشغل القاضي وهو يفكر في القضايا المعروضة عليه، والأحكام التي يصدرها، والتي يريد في جانب منها أن يعطي مثلًا للمتابعين والسامعين، وأقلهم من يحضرون المحاكمة في القاعة، وليس فقط إنزال العقاب على رؤوس الجناة، بل إن بعض هذه الأحكام، وفي قضايا معينة، ترتقي لتصير مصدرًا قانونيًا فيما بعد، أو دليلًا إرشاديًا لقضاة آخرين.

أنواع الحكايات في الكتاب

2019 2 22 3 2 18 356 - حكايات حول العدالة.. قراءة في كتابات قاض وشهاداته - الجزء الثاني

اضغط على الاعلان لو أعجبك

يحوي الكتاب حكايات لجرائم فيصفها كاملة، وأخرى مقتطعة من مرافعات ذائعة الصيت، بما فيها مواقف طريفة، وثالثة سجلتها محاضر الشرطة التي اطّلعت عليها النيابة، ورابعة تبين نوعًا من الجرائم التي كانت غريبة أو موجعة فأثّرت في القاضي الكاتب فدون فكرتها، وعاد ليكتبها تفصيلًا في صيغة أدبية فيما بعد، أو أنه التقطها طازجة وكتبها في أيام تلقيها أو لقائها، وأعطى كل حكاية منها، أيًا كان نوعها، عنوانًا أدبيًا مثل: “وما زال الجرجاوي حيًا” و”ضحكة مدمرة” و”فلاح نابه” و”عطيفي وضيفي” و”جثة لإثبات ملكية” و”الدمع الحزين” و”حلم ومشنقة” و”الشرطة متهمة” إلخ.

بعض هذه الحكايات بدأ سرديًا، أقرب إلى قصة، وبعضها انطلق تقريريًا، فبان أقرب إلى مقال أو تدوين حيثيات حكم أو مرافعة وكيل النائب العام. ومن هنا صار الكاتب متنقلًا بين قاض متأدب، أي رجل قانون يصيغ قضاياه بصورة أدبية، وفي أخرى بدا أديبًا يتخذ من هذه القضايا مادة طيعة لعالمه السردي البسيط.

اقرأ أيضاً: قصة صورة وجه وظهر

النمط السردي في الحكايات

فها هي حكاية تبدأ قائلة: “الغرفة مغلقة بمفتاح، ويقف على بابها أحد الرجال ليمنع الناس من الدخول حتى تأتي الشرطة”، وهي بداية تنطوي على نوع من تشويق يصنعه الاستباق، لتوفر بهذا أحد أساليب فن القصة القصيرة. وعلى غرارها، بل أزيد منها، جاءت حكاية “فلاح نابه”، التي دخلت في السرد مباشرة، إذ بدأت: “سمعت صوت جلبة وحوار ارتفعت حدة نبرته خارج مكتبي معه الحارس عم عبد الحميد. ضغطت زر الجرس، ليدخل. قال:

ـ رجل يريد الدخول ولم يذكر السبب.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ـ وهل كلفناك بمعرفة السبب؟ قلتها في داخلي، وجعلته يدعوه للدخول”.

نحن هنا لسنا أمام سرد فحسب، بل أيضًا حوار بين شخصين عن ثالث، يدور في مكان معين، ويمثل مستهل حكاية أو قصة، حافظت على سمتها هذا حتى السطر الأخير، إذ استمر الحوار، وانتهت بمفارقة أو على الأقل بشيء مدهش، إذ اعترف القاضي بأنه ربما لو كان مكان الفلاح ما كان سيتوصل إلى الفكرة التي جاءت إلى رأس الفلاح.

في هذا الصنف بدأت حكاية بالتشويق صانعة جاذبية ما، ابتداء من العنوان الذي انطوى على مفارقة وهو “ضحكة مدمرة”، وانتهاء بالعبارة الأولى التي قالت: “أحسست أن عقلي توقف عن الاستيعاب، أن ذهني لم يعد قادرًا على فصل الخيوط عن بعضها، أن عينيَّ ترى السطر الواحد من أوراق تلك القضية سطرين أو ثلاثة على هيئة تموجات تروح وتجيء”.

الاقتراب من المقال

خطوات كتابة مقال - حكايات حول العدالة.. قراءة في كتابات قاض وشهاداته - الجزء الثاني

هناك أخرى تبدأ بالقول: “كان مكرم عبيد باشا من نجوم المحاماة في مصر، ومن مشاهير عصره، ومما ذاع في مرافعاته بين العامة حكاية اتهلي، وصحتها لغة اتله، من تلى.. تليت.. اتل”. والحكاية التي قبلها بدأت قائلة: “على الرغم من مشاغله السياسية، كان مكرم عبيد باشا يتردد على مدينة قنا مسقط رأسه، للمرافعة في محاكم الجنايات أو الجنح الهامة”. وهنا اختلط الإخبار بسرد خجول وتقريرية واضحة، ما يعني الاقتراب من المقال، والابتعاد عن القصة.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

نوع ثالث من الحكايات

يوجد صنف ثالث من الحكايات بدأ بما لا علاقة له بسرد أو إخبار مثل ما ورد تحت عنوان “الدفاع للدفاع”، إذ جاءت البداية قائلة: “لا تتقدم الأمم ولا تقوم قواعد الملك إلا بالعدل، والعدل فيض من القضاء، ومن المحامين، وبهما معًا تتحقق العدالة، أو هما وجهان لعملة واحدة يتداولها أصحاب الحقوق”. وعلى منوالها أتت المعنونة بـ”ملك أكثر من الملك”، إذ انطلقت: “يقولون ملك أكثر من الملك، وهي جملة سياسية شاع استخدامها في عصر الملكيات في أوروبا”.

نكمل الأسبوع المقبل إن شاء الله تعالى.

مقالات ذات صلة:

الجزء الأول من المقال

قاسم أمين والأميرة نازلي

اضغط على الاعلان لو أعجبك

رواية “الأفندي” لمحمد ناجي

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*********

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. عمار علي حسن

روائي ومفكر مصري

مقالات ذات صلة