فن وأدب - مقالاتمقالات

صورة وجه وظهر – قصة قصيرة

منذ أن افتتحت هذا المكان وتغيرت أفكاري ونظراتي لأشياء وأهداف كثيرة في حياتي، هو مكتب صغير لتصوير المستندات وتغليف الكتب والمذكرات، دفعت فيه تحويشة عمري بسبب تميز مكانه؛ هو في مواجهة الباب الرئيسي لمستشفى التأمين الصحي، وما أدراك ما هو التأمين الصحي!

في كل الدنيا معروف أنه خدمة ومساعدة من الدولة لرعاياها مقابل اشتراك شهري يقتطع من الرواتب، ولكن ما يحدث عندنا هو امتهان عجيب بشغل المريض بخطوات لا متناهية من الإجراءات الرسمية كي يصل إلى حقه، والذي إن حدث، يأخذه مصحوبا بتأفف كبير كأنما هو أحد المتسولين!

أذكر ذات يوم ذهب قريب لي لصرف علاج مرتفع الثمن لا يطيق تكلفته، كانت أول خطوة أن يقوم بالتسجيل فيما يسمى بالأرشيف لحجز الكشف، استغرق منه الأمر سويعات، وبعد التسجيل وكثير من التوقيعات وتصوير الأوراق، ذهب بعدها إلى مكتب الطبيب المختص فإذا به قد انصرف!

عاد في اليوم الثاني مبكرا جدا ليكون أول رجل على باب الأرشيف وقام بالتسجيل مجددا، ومكث أمام باب الطبيب، وطال الانتظار، وبدأ الجوع ينهش معدته، ولأنه مريض بداء السكري ومن الخطر عليه أن ينتهي معدل السكر في دمه مع تعاطيه لعلاجه صباحا، ذهب لجلب بعض الأطعمة وتناولها سريعا،

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وعندما عاد كان الطبيب قد انتهى من الكشف على المرضى الموجودين بسرعة وانصرف! فعاد في اليوم الثالث ليعيد الكرة، ولكن الطبيب اتصل واعتذر عن المجيء! وهكذا طالت به الأيام حتى فقد الأمل واستدان ثمن العلاج وجلبه على حسابه الخاص.

ولهذا مكتب تصوير المستندات بهذا الموقع سيكون مصدرا كبيرا للربح السريع! وقد كان.

من الطبيعي أن يفرح الإنسان حين نجاحه وتحقيق غاياته التي يطمح بها، ولكن كان نجاحي هنا معبق بكثير من الآلام! فقد أصبحت خبيرا من نوع خاص؛ هذا الرجل ذو اليد المتجعدة الخشنة بنية اللون، مع بعض النمش مع ميل لون وجهه إلى الشحوب والاصفرار، أعلم أنه معتل بالكبد. سيأتي إلى هنا عدة أشهر وتكبر بطنه أمامه، ثم يختفي ولن أرى سوى أولاده، وبعد حين ينعدم ذكره!

هذه الفتاة التي ترسم حاجبيها بقلم أسود بعد اختفاء وتساقط كل شعرها، وجهها ممتلئ بانتفاخ وتغطي رأسها بإحكام شديد، هي إحدى مرضى السرطان! ستظهر هنا مرة كل ثلاثة أسابيع لتسعة أشهر، ثم تختفي والله أعلم ما هو مصيرها!

هذا الشاب الرفيع جدا داكن اللون المتوتر، الذي لا تستقر رأسه على رقبته وينظر يمينا ويسارا بسرعة وبلا سبب بعينيه الجاحظتين، هو مريض بالتسمم الدرقي، وغالبا سوف أراه هنا يوميا بسبب صعوبة الحصول على علاجه، وبعد أشهر سيصيبه اليأس ولن أراه بعدها!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

هذا العجوز الذي يأتي مسرعا ليرتمي على الكرسي الوحيد لدي، أنفاسه تتلاحق بسرعة ويضع يده فوق صدره بالجهة اليسرى، مبتلى بأحد أمراض القلب، لا أدري لمَ يضع يده فوق منطقة القلب، وقد علمت مرة من أحد الأطباء أن آلام اعتلال القلب لا تأتي في هذا الموضع أبدا! ربما شعوره بأن قلبه هو السقيم يدفعه لوضع يده فوق موضعه.

وهكذا من كثرة ما قمت بتصوير الأوراق وتكرارها ومعرفة ما بها، وتجاذب أطراف الحديث مع أصحابها ومعرفة حكاياتهم، التي يندفعون لقصها لتفريغ شحنة مما يعتمل بهم، بعد كل ذلك أصبحت بارعا في تشخيص الأمراض برؤية أصحابها كأنما أنا طبيب كبير، ولكن ما يسهل الأمر عليّ هو أن غالبيتهم لا يأتي هنا إلا بعد تدهور حالته وظهور جميع أعراضها ومضاعفاتها كذلك!

حتى أني كثيرا ما أرى المريض يخرج من باب المستشفى وهو يبحث بناظريه يمينا ويسارا ثم يستقر بصره على مكتبي، أعلم على الفور من مشهده أنه خارج لتصوير مستندات خاصة للحصول على علاج مرض ما، وبتشخيصي المسبق أعد له تلك الأوراق قبيل وصوله إليّ! ويندهش قائلا:

– هذه هي الخطوة الوحيدة التي انتهت بسرعة في هذا المكان الكئيب!

ولكثرة التعامل مع الحالات الميؤوس منها، ولتعاملي مع الجانب الضعيف من الحياة، بدأت تنتابني نظرة سوداوية عجيبة! كلما رأيت مريضا في مراحله الأخيرة، أنظر له متعجبا أشد العجب من حاله، أتمعن في خلجاته وشتى حركاته، وأنا أعلم أنه بعد حين قريب سيتوقف كل ذلك ويصبح جسدا ساكنا، وتبدأ بعض الكائنات الدقيقة في نهش هذا البدن الذي سعى طوال عمره لتجميله والحفاظ عليه! ثم تختفي كل تلك المعالم ولا يتبقى سوى هيكل عظمي مرعب!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

إذن ما قيمة الحياة؟

ولماذا نعيشها؟

وما الهدف منها؟

وهل تستحق كل تلك المعاناة للحفاظ عليها والسعي للبقاء فيها أطول مدة ممكنة؟

تنتابني شفقة لا مثيل لها كلما رأيت مريضا يتهاوى أمامي أو يتمايل من الألم، شعرت بالعجز التام لأن لا شيء بيدي لتقديمه له سوى مساعدته بشرح الإجراءات السليمة لتوفير كثير من الوقت والجهد بسبب الجهل بها. وهناك من تمنيت له الموت السريع كي يرتاح من معاناته وآلامه فمصيره محتوم ومعلوم! كنت أتمعن وأستشعر آلام الجميع كأنما لدي جهاز حساس يكتشفها بسرعة وينقلها إلي!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

هذه الفتاة التي بوجهها شيء من الحسن، ولكن يفسد مظهرها ذلك المنظار الكبير والسميك، ستسعى جاهدة لأشهر محاولة الحصول على فرصة إجراء عملية لتصحيح بصرها، أشعر بمعاناتها وهي تقارن نفسها بزميلاتها!

هذا الرجل برونزي اللون الذي يأتي محمولا متمعر الوجه بالألم، ثم بعد سويعات يخرج سائرا على قدميه وكأنما لا شيء به، يأتي هنا مرتين أسبوعيا، أشعر بمدى ألمه قبل وأثناء الغسيل الكلوي المتكرر له والذي لن ينقطع حتى وفاته!

كل يوم يتنامى بداخلي إحساس هائل بالعجز أمام كل هذا الكم الرهيب من الآلام التي تمر أمام بصري!

وها هو مريض القلب ذو الأنفاس المتسارعة يوجه بصره نحوي كالعادة، وليس عندي له سوى هذا الكرسي العتيق ليريح جسده المكدود عليه ليلتقط بعض أنفاسه السليبة، كم تمنيت لو أحضرت له اسطوانة أكسجين تنتظره هنا لتصحيح أنفاسه المكتومة هذه! ولكن إن فعلتها رغم عجزي عنها، ماذا لدي لبقية تلك القائمة الطويلة من الأمراض والتي تتمثل أمامي كل يوم؟!

*******

كانت أنفاسي تتلاحق بسرعة كالعادة بعد الصعود والهبوط على ذلك السلم الضيق العمودي والذي أتعجب كيف لم ينتبه مصممه أنه سيكون سبيلا لكثير من المرضى، وهل إنشاء مصعد إلكتروني لراحة المرضى هنا معجزة؟! نظرت نحو ذلك المكتب الصغير لتصوير المستندات المواجه للمستشفى، وبدأت أحث الخطى نحوه، وللأسف اختفى ذلك الكرسي الذي كان يمنحه لي صاحبه في كل مرة!

والذي لا أعلم أين اختفى هو نفسه منذ أشهر، فلم أر سوى زوجته ذات الوجه الواجم، وابنته ذات الأعوام العشرة غالبا، واللتان تقومان بجهد غير عادي في هذا المكتب.

وبنظرة خبير رأيت محتوى المكتب آخذا في التناقص كثيرا، فكمية الورق المخزنة والأدوات المكتبية الكثيرة لم تعد كالسابق، تيقنت أن هذا المكتب في طريقه للعجز أو الإغلاق! لهذا لم أتمالك نفسي من سؤال هذه السيدة قائلا:

– أين الأستاذ أحمد صاحب المكتب؟ لم أره منذ أشهر!

ارتعدت أهدابها بسرعة وأدارت وجهها وهي تقول:

– توفاه الله في حادث مروري.

اعتصرت يد باردة قلبي المتهالك وشعرت بألم لا مثيل له لم أجربه من قبل، أشهد لهذا الرجل أنه كان حسن الخلق، طيب القلب، يحاول جاهدا مساعدة الجميع في حدود إمكاناته البسيطة، كانت بسمته المرتسمة على وجهه دوما أهم ما يميزه.

ولهذا ورغم عدم حاجتي للتصوير، أخرجت بطاقتي وطلبت من ابنتها الصغيرة أن تقوم بتصويرها صورة وجها وظهرا، وأخرجت ورقة مالية كبرى منحتها إياها مقابل ذلك التصوير، نظرت نحوى وهمت أن تطلب عملة أصغر لعدم توفر فكة، ربما لا تكفيها، هززت رأسي مبتسما دلالة على عدم رغبتي في تلك البقية. ورغم صغر سن الفتاة إلا أني رأيت رد فعل ما زال يحفر معالمه في مخيلتي، فقد ارتسمت على وجهها مشاعر الامتنان والألم والانكسار معا في لوحة عجيبة هزت قلبي الضعيف بقوة! لهذا قررت مساعدة هذه الأسرة بشتى الطرق.

بدأت أحث الخطى نحو أول الطريق، استقللت سيارتي الفاخرة مكيفة الهواء وحديثة الإعدادات، وانطلقت بها إلى فيلتي الخاصة، فتحت بابها الإليكتروني بهذا الريموت الذي أحمله معي، وأخيرا دخلت إلى زوجتي العتيقة، والتي سيظل جمالها هو المتمثل في عيناي مهما تعاقبت علينا السنون.

سألتني بوهن قائلة:

– ألا تريد أن تريح نفسك قليلا، ألف صيدلية تتمنى توصيل العلاج لك هنا.

كالعادة وبنفس الابتسامة قلت لها:

– أجمل ما في الحياة هو القتال ومواجهة الصعاب فيها حتى الرمق الأخير.

تمت بحمد الله

اقرأ أيضاً:

عشرة أضعاف

معضلة السلاحف

“الحلم والسواد القاطن هنا وهناك”

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*****************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. أحمد السعيد مراد

طبيب وروائي – عضو اتحاد كُتاب مصر

مقالات ذات صلة