فن وأدب - مقالاتمقالات

عشرة أضعاف

أخيرًا انتهى هذا الضجيج وذهب ذلك الصراخ، أحدهم يصيح طلبًا لثمن كراسة، وآخر يأبى أن يصحب معه طعامًا من المنزل، بل يريد شراءه من الخارج، والبعض يعترض على ما أخذ من مصروف في هذا اليوم، إنها معركة كل صباح! ضجيج الأبناء قبل ذهابهم إلى مدارسهم، ذلك الذي اعتدتُ عليه وأصبحت أنا وهو كالتوأمان.

ها هم قد ذهبوا وصحبوا معهم صياحهم، وتهيأت أنا للذهاب إلى عملي، أعدت لي زوجتي لفافة أطعمتي التي سآخذها وخرجتُ إلى الطريق الذي ملّني من كثرة سيري به. عشرون عامًا وأنا أمر بهذا الطريق، نفس المباني والحوانيت، وهي ذاتها كل المعالم، بل نفس البشر بكل هيآتهم الدائمة! بل هي نفسها العوائق المستديمة به حتى أصبح لا يعنيني هل عيناي مفتوحتان أم مغلقتان.

ولكن..

ها هو مشهد جديد بدا واضحًا كالشمس، أحدهم كتب بخط أنيق على جدار أحد الأبنية، كتب يقول: “الحسنة بعشرة أمثالها”، مررتُ عليها ببصري سريعا وقرأتها بلا مبالاة، ولكن..

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ربما لكي أشغل نفسي عن تأوه قدماي بدأت بالتفكير فيها، أعلم أن هذه الجملة مقطع من حديث نبوي سمعته في الجمعة السابقة بالفعل، الرسول الكريم يخبرنا أن من يفعل حسنة سوف ينالها مضاعفة عشر مرات، لا شك لدي بأنه صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى،

ولكن ترى من يتحقق له ذلك؟ وهل أنا منهم؟! لست أدري كيف امتدتْ يدي لتعبث بما يحويه جيبي بقليل النقود، وعقلي تتصارع بداخله باقة من الأفكار، ما رأيك أن نجعل ذلك قيد التجربة؟ سيكون استثمارًا رائعًا ومكسبًا نحن في حاجة كبيرة إليه بالفعل!

كانت الخطى تقترب من المسجد الكبير والذي أمامه صندوق دائم لجمع التبرعات بهدف استكمال بناء الجزء المتهدم منه، خرجت يدي وبها الجنيهات الخمس، وبعد تردد كبير وقبل أن أفيق كانت قد غابت عبر الفتحة المخصصة للتبرع في هذا الصندوق.

هززتُ رأسي ويختلجني بعض الندم متسائلا ما هذا الذي فعلت؟! أنا في عوز لهذه الجنيهات أكثر من حاجة المسجد لها، ولكن تذكرت بأنها استثمار سيعود إليّ بمبلغ خمسين جنيها! فتبسمت منطلقا ومنتظرا بلهفة لمعرفة كيف سيصلني هذا الربح.

وصلتُ إلى عملي وواصلتُ أعمالي حتى منتصف النهار، وحينما بدأت عملية صرف الرواتب، توجهت إلى الشباك الخالد للصراف، وراودتني فكرة عجيبة، ها قد دنت اللحظة المرتقبة للحصول على الربح المنتظر، حتما سينتابُ الصراف سهوًا ويعطيني خمسين جنيهًا زيادة فوق راتبي دون أن يدري!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ولكن صدر من أعماقي رد غريب، ربما هو بقايا ضمير يحتضر! لقد قال الشيخ المعمم أمس في التلفاز: “إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا”، وبالطبع لن يمنحني سبحانه إلا طيبًا! ولو وقع ذلك الضرب من الخيال وانتاب الصراف سهوًا، يجب أن أنبهه إليه وأرد إليه الزيادة، وإن لم أفعل سيكون جرما لا غنما ولا يمكن أن يقبل الله به!

تسلمت راتبي وأنا لا أدري رد فعلي إن حدث المتوقع بالفعل! قمت بعده بحرص وترقب كبيرين، وكانت الصدمة أنه لا يزيد مليما! شعرت بوجوم ولكن أعقبه راحة، حتى لا أقع في شرك هل أفعل الصواب أم أرضى بالربح المنتظر!

وبعد استقراري على مكتبي بقليل، إذا بأحد زملائي يزف إليَّ البشارة، بينما يتطاير فرحا هتف قائلا:

– المدير سيصرف لبعضنا مكافآت استثنائية لأن إنتاج المصنع كان رائعًا الشهر الماضي.

هزني الخبر من الأعماق، نعم هذا هو الطريق السليم للحصول على الجزاء الذي وعدني الله به، وليست الطرق المحاطة بالأشواك والشبهات! وفور علمي بوجود قائمة معلقة بأسماء المستحقين للمكافأة، ودون ذرة تفكير في مدى استحقاقي لها، توجهت نحوها مختالا وكلي ثقة مطلقة أن اسمي يتصدرها!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ولكن..

عدت والأسى يثقل كاهلي، والحزن يكاد أن يذهب بفؤادي، فلم أكن منهم! واصلت أعمالي المعتادة بقية يومي، وفي كل حركة أو لمحة تصدر أمامي أترجمها على أنها اللحظة المرتقبة!

هذا العميل حتمًا سيعجب بنشاطي الجم في إنهاء معاملاته، ويخرج من جيبه خمسين جنيها مكافأة مستحقة لي!

مدير المصنع آت، لا ريب أنه اكتشف خطأ عدم وجود اسمي في قائمته للمكافآت، وجاء ليصوب الخطأ!

انتهى يوم العمل ولم يحدث أيًّا مما توقعت، ولكن الأمل لم يفارقني! طوال طريق عودتي إلى بيتي، كانت عيناي تترقبا العثور على ضالتي! ربما يطلب شخص ما مساعدتي فأعينه فيمنحني إياها، بل قد تقع من آخر حافظة نقوده فأعطيها له فيجزل الشكر والعطاء، ربما وربما وربما…

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ولكن أيًّا منها لم يحدث!

ها قد وصلتُ منزلي، بل إلى القبر الذي سيحجب فيه راتبي عني إلى الأبد، زوجتي وأولادي يعلمون بأن هذا هو اليوم المرتقب لتمزيقي واستخراج النقود من بين أشلائي. انتهى اليوم ولم يتحقق الوعد!

عانقني شعور عارم بالندم على ما فعلت، لقد فقدتُ الجنيهات الخمس وهذا المسجد لم يكن لينتظرني، فهناك أثرياء يمكنهم التبرع له دون أن تهتز موازينهم كما حدث معي!

صعدتُ إلى شقتي وبينما يعمل مفتاحي بصريره المعتاد، إذا بجاري يفتح بابه مناديا عليّ! كان الحرج يكبل صوته الهادئ أثناء طلبه، فقد مرض أحد أولاده، وهو في حاجة إلى خمسين جنيهًا سلفة ليتمكن من شراء علاجه، وذلك حتى يصرف راتبه في الغد. منحته إياهم بعد أن أخذت منه موثقا بإعادتهم، دخلت شقتي ليتجمع حولي زوجتي وأبنائي، وهم يتقافزون بمنتهى الصحة والنشاط.

وفجأة راودني خاطر رائع..

تُرى ذلك المرض الجاثم على صدر ابن جاري، ماذا لو نال من أحد أبنائي؟

لمعت عيناي، وقد علمت كيف وصلتني الأضعاف العشرة.

تمت بحمد الله

اقرأ أيضاً:

جبر الخواطر

خُلُق العطاء

“الإنسان” ذلك الكائن الأخلاقي

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*****************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. أحمد السعيد مراد

طبيب وروائي – عضو اتحاد كُتاب مصر

مقالات ذات صلة