مقالات

وللحقيقة أوجه!

واحدية الرأي.. هكذا هم يريدون؛ السياسيون، الإعلاميون، دعاة الفضائيات، مسؤولو التعليم والصحة، إلخ، حتى بعض الأصدقاء الذين تلتقيهم يوميًا بشكلٍ فعلي أو افتراضي، كلٌ حسب رؤيته وبرامجه وأهدافه التي لا يرى بديلًا لها، وويلٌ لمن أبى! وكأن «بروكرست» قد بُعث من جديد ليُطبق معياره الآثم على العقل!

أسطورة بروكرست

كان «بروكرست» فيما تروي الأسطورة اليونانية، قاطع طريق يعترض العابرين ليجبرهم على المبيت فوق سرير معدني يحمله معه حيثما كان، ومن ثم يطبق معياره الوحيد للحقيقة، ألا وهو طول السرير الذي يطابق طول بروكرست نفسه، فإذا كان الضحية أطول من السرير قام ببتر قدميه ليتساوى طوله مع طول السرير، وإذا كان أقصر قام بمطه وشده بقوة حتى يصبح طوله مساويًا لطول السرير.

وقد انتهت الأسطورة بمقتل بروكرست بعد أن أوقع كثرة من الضحايا، لكن روحه فيما يبدو أبت إلا أن تتحالف مع من يشاركونه تلك النظرة الأحادية للحقيقة في كل مكان، وما أكثرهم، لتجد رواجًا لم يكن يحلم به بروكرست نفسه في منطقتنا العربية،

حتى لقد أصبح لدى كل مسؤول في العالم العربي نسخة طبق الأصل من هذا السرير غير القابل للتطويع، فإما أن تتطابق أحلام الآخرين وأفكارهم وبرامج حياتهم مع أحلام وأفكار وبرامج هؤلاء، وإما أن يتم إخضاعها وتكييفها بالقهر والقوة البروكرستية.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لم تقتصر بروكرستية العالم العربي على الجانب السياسي فقط، بل لقد تعدتها لتشمل كافة مناحي الحياة، ليذهب ضحيتها الملايين من أبناء أمتنا العربية ما بين ممطوط ومبتور!

حقًا لقد جاهدت الأغلبية المقهورة الصامتة ردحًا طويلًا من الزمن في جعل طول الجسد المنهك مساويًا لطول السرير، وحفظت عن ظهر قلب شروط الحياة المنقوصة فكريًا: كُن كما يريدونك، خادمًا لأحلامهم، محبًا لاستمرارهم، لا تقل ماذا أعطوني،

بل قل ماذا سأعطي لهم، وسبح بحمد رؤاهم آناء الليل وأطراف النهار، اغضب لانتقادهم من قبل الآثمين الباحثين عن الحقيقة، وهلل لعبقرية أفكارهم، وزين بآلامك قوائم تجاربهم! لكن الروح البروكرستية روحٌ شرسة، تأبى إلا أن تُطوع الجميع قسرًا!

لا يُدرك كثرتنا أن للحقيقة أوجه مختلفة، قد لا تمثلها، لكنها قطعًا تعكس ضرورة اختلاف رؤيتنا، واختلاف استدلالاتنا وفقا لاختلاف إدراكاتنا ونقاط انطلاقنا! أقول ذلك لكل من يجعل رأيه مقياسًا للحقيقة، معيارا للصواب والخطأ، القبول والرفض، والحب والعداء.

الحقائق ثابتة لا تتغير

يقول «برتراند رسل» في كتابه «مشكلات الفلسفة» Problems of Philosophy (1912): «على الرغم من أنني أعتقد أن للمنضدة لونًا واحدًا يُغطيها ككل، إلا أن الأجزاء التي تعكس الضوء تبدو أكثر لمعانًا من الأجزاء الأخرى، كما أن بعض الأجزاء تبدو بيضاء بسبب الضوء المنعكس.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

فإذا ما تحركتُ، فإنني أعرف أن الأجزاء التي تعكس الضوء سوف تختلف، ولذا فإن التوزيع الظاهر لألوان المنضدة سوف يختلف.

ويتبع ذلك أننا إذا كنا بإزاء منضدة يشاهدها العديد من الناس في اللحظة ذاتها، فلن يرى اثنان منهم توزيع الألوان ذاته تمامًا، إذ لن يكون بوسعهما رؤية المنضدة من نقطة الرؤية ذاتها تمامًا.

إن اللون الذي أراه وتراه إذن ليس شيئًا ملازمًا للمنضدة، وإنما هو شيءٌ ما يعتمد على المنضدة، والناظر إليها، وطريقة سقوط الضوء عليها، ومن ثم فإن المنضدة الحقيقية، إن كان ثمة منضدة حقيقية، ليست هي نفس ما يقع في خبرتنا مباشرةً خلال النظر أو اللمس أو السمع. المنضدة الحقيقية، إن كان ثمة منضدة حقيقية، ليست معروفة لنا مباشرةً على الإطلاق، بل يجب أن تكون استدلالًا مما نعرفه مباشرة».

لا يعني ذلك بحالٍ من الأحوال أن الحقيقة في ذاتها ليست مطلقة، بل يعني بالأحرى أن معطياتنا الحسية، وقدراتنا العقلية على الإدراك تخضع لشروطٍ مكانية وزمانية متغيرة، وبالتالي فمعرفتنا بالأشياء والمواقف ليست مكتملة، وعلى درب المعرفة تشتبك الذات بالموضوع في علاقة جدلية تقتنص دومًا ما قد خفي عنا بشروطٍ إدراكية جديدة.

هذا ما عبَّر عنه «آينشتين» حين صرَّح قائلًا: «لا يُصدق بعض علماء الفيزياء –وأنا واحد منهم– أننا يجب أن نتخلى فعلًا وإلى الأبد عن فكرة التمثيل المباشر للحقيقة الفيزيائية في الزمان والمكان.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

أو أننا يجب أن نقبل الرأي القائل بأن الحوادث في الطبيعة تشبه لُعبة الحظ. كلٌ منا حر في أن يختار قبلته. وكلٌ منا قد يستمد راحة نفسه من قول الفيلسوف الألماني إبراهام لسنج E. G. Lessing: إن البحث عن الصدق أثمن من امتلاكه».

ألم يئن لنا إذن أن نكف عن دوجماطيقية رؤيتنا للعالم؟

أن يكف كل منا عن الظن بأنه يرى العالم بالدقة الكافية؟ وأن ثمة فرقًا بين فهم العالم بموضوعية (أو على الأقل محاولة فهمه) وبين معايشته تجريبيًا من خلال إطار موضوعي مطلق؟

أليس هذا ما تؤكده صور الوهم أو الخداع البصري Optical Illusion، تلك التي تعكس طريقة عمل الدماغ في إدراك الصور بصريًا بشكل يختلف عن الواقع الموضوعي، حيث تتم معالجة المعلومات التي تجمعها العين في الدماغ لإعطاء تصور لا يتفق مع القياس المادي؟!

أخيرًا، سُئل أحد العلماء وهو على المنبر عن مسألة فقال: «الله أعلم، لا أدري»، فقيل له: «هذا المنبر لا يرقاه الجهلاء»، فقال: «إنما علوت بقدر علمي، ولو علوت بقدر جهلي لبلغت عنان السماء».

اقرأ أيضاً:

«زينون» يُرشد أتباعه إلى بابي الحقيقة والباطل

اضغط على الاعلان لو أعجبك

الخبر بين الادعاء والحقيقة

الحقيقة في عصر الإعلام

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*****************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية

مقالات ذات صلة