مقالات

أندلسيات .. الجزء السابع

تتصارع الدول في المشرق والمغرب لأسباب شتى، ومن الواضح أن الاختلاف الديني لم يكن دائمًا سبب الحروب، فقد تصارعت الدول الإسلامية فيما بينها، وتصارعت الدول المسيحية فيما بينها كذلك، وفي حالة الصراع تستغل كل دولة الظروف الداخلية في الدولة الأخرى.

في القرن السادس عشر كانت إسبانيا تخوض حروبًا في أوروبا، خاصة ضد فرنسا، وكان من الطبيعي أن تحاول فرنسا استغلال الموريسكيين لصالحها، في مقابل تحسين وضعهم. دخل الموريسكيون في مفاوضات مع فرنسا، وعرضوا على ملكها أن يزرعوا الأرض البور ويدفعوا له ما يشاء، في مقابل أن يسمح لهم بأداء الشعائر الإسلامية.

القانون الإسباني آنذاك كان يمنع خروج الأطفال الموريسكيين إلى دولة إسلامية، لذلك كان الموريسكي يطلب السفر –مع زوجته وأطفاله– إلى فرنسا، ومن فرنسا كان يسافر إلى المغرب. كانت فرنسا محطة لا غنى عنها للموريسكي الذي يريد النزوح إلى المغرب أو الجزائر أو تركيا، فقد كانت تركيا على علاقة وثيقة مع فرنسا آنذاك، وقد بذل الأتراك جهودًا مضنية من أجل نصرة الموريسكيين، استغلوا فيها علاقتهم الطيبة بفرنسا ووجودهم في الجزائر، وما تخلّف الأتراك عن مساعدة الموريسكيين إلا لأعذار قهرية، فقد كانوا يحاربون في جبهات عديدة.

مبلغ علمي، اعتمادًا على أبحاث موثقة، لم تبذل دولة إسلامية عربية في سبيل مساعدة الموريسكيين ما بذلته الجزائر. لم يكن يمر يوم دون أن تكون هناك سفينة جزائرية تنتشل الموريسكيين الراغبين في الهروب من إسبانيا، وكان هناك تنسيق بين الجزائر ومسلمي فالنسيا، لدرجة أن المتحكم الفعلي في فالنسيا لم يكن ملك إسبانيا، بل حاكم الجزائر.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

أضف إلى ذلك جهود المغرب، إذ كانت مدينة تطوان آنذاك أندلسية موريسكية، فقد أعاد أبو علي المنظري الغرناطي تأسيسها قبل سقوط غرناطة بعقود، واستقبل فيها بني وطنه الموريسكيين. انطلق الموريسكيون من تطوان في حملات جهاد بحري استمر طويلًا.

لجأ الموريسكيون إلى الجميع تقريبًا، وكانت إجابة البعض محبطة: سلطان مصر، على سبيل المثال، اكتفى بإرسال ما يمكن أن نسميه “رسالة شجب واستنكار” إلى فيرناندو، ولم يكن أمام السلطان في الحقيقة خيارات كثيرة، فقد كانت المجاعة تهدد مصر وسوريا آنذاك، وكان الحصول على القمح مطلبا ملحًّا، (قيل إن إسبانيا كانت ترسل القمح إلى مصر).

ما أريد أن أسجله هنا أن العالم الإسلامي لم يتخل عن الموريسكيين، لكن الظروف لم تكن تسمح للجميع بالمساعدة.

قلت إن الصورة لم تكن حالكة السواد أمام الموريسكيين في إسبانيا الكاثوليكية، إذ كان يتعاطف معهم النبلاء واليهود والغجر وكثير من العامة الذين لا مصلحة لهم في الإيذاء. لكنني لم أقل أبدًا إن الصورة كانت وردية، فقد كانت محكمة التفتيش لهم بالمرصاد. المطالع للكتابات العربية عن محكمة التفتيش يجد فيها كثيرًا من الخرافات، وأريد إلقاء الضوء على بعض الجوانب لعلنا نقترب أكثر من تاريخ موضوعي للموريسكيين.

محكمة التفتيش لم تنشأ لمحاربة المسلمين، بل للدفاع عن العقيدة الكاثوليكية، وبناء عليه فقد عانى ويلاتها اليهود والمسيحيون البروتستانت قبل المسلمين. المحكمة العادية كانت –بحكم عملها– تنتظر حتى تحيل النيابة إليها القضايا، وتقع أجور القضاة والنيابة ونفقات السجون كلها على عاتق الدولة. أما محكمة التفتيش –بحكم عملها أيضا– فهي التي تبحث عن القضايا، وليست هناك جهة محددة تنفق على قضاتها. كان المتهم هو الذي يتحمل أجور القضاة والنيابة والسجّان، بل والسجن نفسه، وكان بمقدور المتهم –الثري بطبيعة الحال– أن يختار مكان سجنه، على أن يتحمل أجر السجّان.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

أكاد أرى أن الهدف من المحكمة ليس إعدام المتهم، بل تجريده من أمواله. لاحظ أن الموريسكي الثري كوسمي بن عامر قضى ثلاث سنوات من عمره يحاكم أمام محكمة التفتيش، وهو يتحمل في تلك المدة أجور القضاة والنيابة والسجن والسجان، هذا بالإضافة إلى الغرامات التي كان يدفعها، وبالإضافة إلى رشاوى كان يقدمها لحاشية الملك وللكنيسة، لعلهم يتركونه وشأنه.

كان الموريسكي الثري بمثابة الدجاجة التي تبيض ذهبًا. معنى هذا أن المحكمة تعتمد عليه في تمويلها، ومن ثم فلا تلجأ إلى حكم الإعدام إلا للضرورة. أتعجب كثيرًا حين يكتب أحدهم عن إعدام آلاف الموريسكيين، فذلك لم يحدث. الوثائق، ومنطق الأمور يقولان شيئًا آخر.

في كتاب عن محكمة تفتيش كوينكا نعلم أن تلك المحكمة أعدمت سبعة أشخاص في عشر سنين، وأتصور أن المحاكم في المدن الأخرى كانت تسير على الوتيرة نفسها، وهذا معناه أن الرقم الإجمالى للموريسكيين الذين أعدمتهم محكمة التفتيش يقدّر بالمئات. هذا لا ينفي أبدًا بشاعة الجريمة، لأن من قتل نفسًا واحدة فكأنما قتل الناس جميعًا، لكن القراءة الموضوعية للأحداث مطلوبة.

كانت محكمة التفتيش تلاحق الموريسكيين، لكن الوثائق تقول إن كثيرًا من النبلاء ومن عامة المواطنين كانوا يدلون بشهاداتهم لصالح الموريسكيين. في وسط ذلك الجو، وداخل السجن، كما نقرأ في المخطوطة رقم 9654 بمكتبة مدريد الوطنية، دخل أحد الموريسكيين في جدل ديني مع قسيس بروتستانتي سجين، وقد طلب القسيس من السجّان أن يفصل بينهما، وقال في طلبه “هذا الموريسكي كفيل بإقناع كل من يجادله بالإسلام”. تقول الوثيقة إنهم “أحرقوه حيًا، رحمه الله تعالى”.

مقالات ذات صلة:

اضغط على الاعلان لو أعجبك

الجزء الأول من المقال، الجزء الثاني من المقال

الجزء الثالث من المقال، الجزء الرابع من المقال

الجزء الخامس من المقال، الجزء السادس من المقال

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ.د./ جمال عبد الرحمن

أستاذ اللغة الإسبانية، كلية الآداب والترجمة جامعة الأزهر

مقالات ذات صلة