إصداراتمقالات

ملائكة وشياطين

ملائكة وشياطين

إلى عهد قريب, كانت السينما العربية تقوم بإنتاج أفلام تبرز المعركة الحقيقية عبر التاريخ, المعركة بين الخير والشر, بين العدل والظلم, ومن أبرزها الأفلام التي تحكي بداية وتطور الدعوة الإسلامية وما قاساه النبي عليه الصلاة والسلام وأتباعه في سبيل إحقاق الحق وإقامة العدل. ولعلنا نتذكر التقليد المتبع في مثل هذه الأفلام والمسلسلات وهو أن يرتدي الممثلون الذين يمثلون جانب الحق جميعا ملابس بيضاء بينما من يمثل جانب الباطل يرتدي اللون الأسود.

هذا التقليد يثير تساؤلا, هل ينقسم الناس في كل زمان ومكان إلى أبيض وأسود؟ ملائكة وشياطين ؟

هل كل من انحاز لجانب الحق قد وصل فعلا لأعلى مراتب الطهر الملائكية, أم أننا لو تمعنا في بعض هذه النفوس البشرية فقد نجد مزيجا من الأمراض التي يعاني منها أغلبنا مثل الضعف والكبر والغضب (بدرجات متفاوتة), والتي تحتاج إلى الجهاد النفسي المستمر للتخلص منها؟

اضغط على الاعلان لو أعجبك

الأهم من ذلك, هل كل من انحاز لجانب الباطل هو شيطان رجيم, أم أننا قد نجد بينهم نفوس بشرية تعاني الضعف والتيه والحيرة وتنتظر أن تمتد لها بحلم وصبر يد واعية رحيمة لترشدها وتقويها؟

هذا التقسيم السطحي للأشخاص (إما أبيض أو أسود، ملائكة وشياطين ) يُعتبر من الأنماط الفكرية الخاطئة والذي يسمى “بالثنائية الفكرية” وهو تصور بديلين فكريين اثنين متطرفين أو نقيضين، مستبعدا بذلك تصور بدائل أخرى عديدة واقعة بين هذين البديلين.

فمثلا نجد الإنسان الذي يعاني من هذا المرض عندما يفشل في مجال ما كالتجارة أو الدراسة أو يعجز عن تحقيق أحد أهدافه في الحياة, يسارع إلى الحكم على نفسه بالفشل التام الدائم في جميع مجالات حياته. أما عند النجاح فهو يشعر بالكبر والغرور والإطمئنان للحياة متناسيا أن دوام الحال من المحال.

وكذلك الثنائية الفكرية عند الحكم على الأشخاص, فنجد مثلا مسارعة البعض للدعوة إلى ترشيح شخص ما للرئاسة لأنه حاز على جائزة عالمية في الفيزياء, أو لشغله منصب مرموق في مؤسسة دولية, أو لأنه نظيف اليد, أو لأنه من المصلين الخاشعين أو لأنه خاض حربا أو قام بعمل بطولي. كل هذه صفات جيدة يحتاجها المسؤول الحكومي, ولكن هل تكفي لأن يشغل الموصوف بها منصب حساس مثل الرئاسة, هل كل شجاع هو إنسان شريف؟ هل كل متدين هو شجاع وواعي؟

أيضا قد تتجلى الثنائية الفكرية في خطأ يقع فيه الكثيرين وهو “التصنيف المتطرف”, فأنت إما متعصب للحكومة أو لحزب أو لجماعة أو أنت معارض دائم لهم؟ هل تحب فلان أم تكرهه؟ ألا يجب أن يكون الحكم على الأشخاص والجماعات وفق مبادئ و قيم محقة لا بناء على تعصب أو عواطف, إن وافقوها فقد أصابوا وإن خالفوها نخالفهم.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

بمثل هذه العقلية الواعية يجب علينا أن ندرس, هل الديموقراطية هي الحل؟ هل رأي الأغلبية في أي شئ وكل شئ هو الحق؟ هل الديموقراطية حرام شرعا؟ أم أنها وسيلة هامة للمشاركة والرقابة الشعبية ولكن يجب أن تراعي القيم والمبادئ والأخلاق التي أثبتها العقل الواعي المجرد. هل يجب أنا نختار بين شعارين إما “مصر أولا” أو “الحدود تراب” ؟ أم أن “مصر” هي كيان مستقل لا يستطيع الانعزال عن محيطه الإقليمي ودوره التاريخي ومسؤولياته تجاه العروبة والدين والإنسانية.

الثنائية الفكرية لا تنحصر فقط في الأفراد, بل قد تتحول إلى أزمة مجتمعية عندما ينتشر هذا النمط الفكري بين الجزء الأكبر من الشعب, فتاريخيا في أوروبا خلال فترة العصور الوسطى (أطلق عليها البعض مصطلح “العصور المظلمة”), بسبب معاناة أغلبية الشعوب الغربية لعقود طويلة من ظلم الكنيسة باسم الدين, وبسبب عدم تحقيق أي تقدم في المجالات الفكرية والمادية, نجد أنه ما إن ظهرت بوادر ضعف السيطرة الكنسية وبدء التطور التكنولوجي  توالي الاكتشافات العلمية, حتى كفر أغلب الفلاسفة والمفكرين بالدين وبالغيبيات وتبنوا فلسفة مادية تؤمن بأن الإنسان هو مركز الكون وأن سعادته تنحصر في جانبه المادي الجسدي فقط لا الجانب الروحي المعرفي. وهنا علينا أن نتساءل, هل فعلا الدين يتعارض مع العلم؟ هل خطأ الكنيسة في فهم الدين أو في تطبيقه و تكفيرهم لكثير من العلماء والمفكرين يعني خطأ الدين بشكل عام؟ هل التقدم في الطب والفيزياء يعني عدم وجود إله؟

أيضا هناك ثنائيات فكرية يتم طرحها لتضليل الرأي العام, هل يجب أن نختار إما الروح أو المادة؟ إما العقل أو الدين؟ “إما أنا أو الفوضى”؟ إما استمرار اتفاقية كامب ديفيد بما تحمله من شروط تمس السيادة والكرامة المصرية وإما الحرب أو الدمار؟ إما أن نطبق العولمة بما تحمله من انسحاق فكري و سياسي واقتصادي وإما أن نصبح دولة منعزلة ومتخلفة؟ كل هذه الثنائيات هي ثنائيات مزيفة تحتاج لعقول واعية لكشفها.

هناك من المفكرين من أراد حل مشكلة الثنائية بطرح مبدأ “أن الحق نسبي”, أي أن الرأي والرأي المناقض له كليهما حق, عملا بمبدأ “العبوا مع بعض ما تتخانقوش”, مستدلا على ذلك بأننا لا نستطيع الوصول للحقيقة في هذا العالم المتغير فلماذا التصارع والتنازع, ولكن للأسف هو لم يكن محقا في ذلك, فليس كل الثنائية خطأ, فهناك حق وما خالفه باطل, فحقيقة أن هناك شمس وأن الأرض تدور حولها هي حق والرأي بغير ذلك باطل, لأن هذه الحقيقة قد ثبتت بالدليل الحسي اليقيني. أيضا حقيقة أن هناك إله كامل خلق هذا الكون هي حق, وغير ذلك فهو باطل, لأنه تم إثبات ذلك بالدليل العقلي البرهاني. إذن ما قام عليه الدليل الصحيح فهو حق مطلق وما ليس هناك دليل عليه فهو نسبي.

خطورة الثنائية أنها إن تفشت في مجتمع وتصنيف الناس الى ملائكة وشياطين فستؤدي حتما إلى انقسامه وتفتته وإلى شيوع ظواهر التعصب والتطرف وما قد يلحقهما من عنف فكري ونزاعات دموية, فكل مجموعة أو فئة سترى نفسها ملائكة يجب عليها محاربة “الشياطين” المختلفين معها فكريا, وسيبدأ قهر الأغلبية الشعبية للأقليات, أو رفض وتكفير الأقليات للمجتمع “الضال”, وتنتشر ظاهرة التحزب والنزاعات المذهبية والطائفية. وكل هذه الظواهر هي مقدمات لتراجع وتخلف المجتمعات لأنها تستنزف طاقاته وموارده البشرية والمادية وتكون سببا للتدخلات الخارجية التي ستعمل حتما على صب مزيد من البنزين على النار.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ختاما لكي نستطيع التغلب على مرض الثنائية الفكرية على المستوى الفردي والمجتمعي فيجب علينا أولا تحليل أسبابها, ومن أهم هذه الأسباب الاكتئاب و الانهزامية والتعجل والجهل والسطحية. بعض هذه الأسباب هو نفسي يحتاج لخطاب علمي واعي يُوجه للفرد والمجتمع ويهدف لمكافحة حالات الاكتئاب والقلق المرضي والانهزامية لزيادة ثقة الفرد في نفسه وثقةالمجتمع في إمكانياته. والجزء الآخر من هذه الأسباب يُعالج بنشر الوعي والقدرة على التعمق والتحليل لتكون سمات عامة ينتج عنها مجتمع واعي لا تحركه العواطف ولا ينساق وراء الثنائيات المفروضة عليه سواء من الداخل أو الخارج. وحيث أن كل مجتمع هو بطبيعته منقسم لطبقة عريضة من عامة الناس لها قدرة محدودة على التعمق في قضايا العصر المعقدة, لذلك فالمسؤولية الأكبر تقع على القسم الآخر فيه وهم النخب, ولكن ليس بالضرورة النخب التي يبرزها إعلام رجال الأعمال أو الإعلام الرسمي التابع للحكام, فهؤلاء تقاعسوا عن أداء دورهم إما تقصيرا أو عجزا, و لكن أقصد بالنخب هم كل مجموعة تستطيع التسلح بالتفكير السليم وبالمنهج الصحيح للمعرفة لفهم الواقع الذي نعيشه, وللإجابة على الأسئلة المصيرية التي يتعلق بها مصير كل إنسان (من أين أتيت؟ وماذا أفعل في هذا العالم؟ وإلى أين سأذهب بعد الممات؟ ), ثم يستمر في رحلة الوعي والمعرفة لتشخيص الأزمات التي يعاني منها مجتمعنا ويقدم حلولا لها, لا كمسكنات مؤقتة زائلة المفعول ولكن حلولا تقتلع هذه الأمراض والأزمات من جذورها.

 

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.

ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

أحمد عثمان

باحث ومحاضر بفريق مشروعنا بالعقل نبدأ

مقالات ذات صلة