مقالات

الحرب الرمزية .. الجزء السادس

الخطابات بين المعنى والمغزى أو الخطابات والسقوط في فخ لعبة شيطانية

لا أريد أن أخوض بقارئي الكريم تاريخًا طويلًا لمفهوم كلمة “الخطاب”، سواء أكان ذلك التاريخ على مستوى الدرس اللغوي عمومًا والأصولي خصوصًا داخل الفضاء العربي القديم.

أم كان ذلك التاريخ على مستوى الدرس اللغوي الغربي الحديث، وما لهذه الكلمة من التباسات مع كلمة أخرى هي كلمة: “النص”، لما لهذا الحديث من ثقل يَنُوء به قلب القارئ غير المتخصص، لكنني فقط يعنيني أن أقول:

مفهوم الخطاب

إنني أعني بكلمة: “الخطاب” في استخدامي لها: “كل كم دلالي له مضمون معين وشكل محدد، يحقق لصاحبه غرضًا مقصودًا”.

العناصر التي تتحكم في فهم الخطاب:

قصدي بهذا التعريف المرن والموسَّع التأكيد على أمرين يمثلانِ مدخلي إلى مفهوم الخطاب:

تعددية الخطاب

الأول: هو تعددية الخطاب حجمًا وشكلًا وموضوعًا، أما تعدديته حجمًا فتتضح بمعرفة أن الخطاب يبدأ بالكلمة التي تُقال في موقف ما لينتهي بالكتاب المكتوب أو الخطبة المقولة.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

أما تعددية الخطاب شكلًا فتعود إلى أنه لا يقتصر على المكتوب ولكنه يشمل المنطوق أيضا بل والمُؤدى من أحداث ووقائع، بعبارة موجزة: الخطاب شكلًا يصدق على القول والعمل سواء أكان العمل فعل كتابة أم نطقًا أم أداء لوقائع وأحداث.

أما تعددية هذا الخطاب موضوعًا فلأنه يشمل ما هو معرفي سواء أكان علميًا أم دينيًا، وما هو ترويجي مثل الإعلانات والدعاية، وما هو ترفيهي ثقافي مثل الأعمال الفنية والدرامية، وما هو سياسي مثل الوقائع والأحداث التي تقع كل يوم.

ولتغطية هذه التعددية في فهمي للخطاب اخترت تصدير تعريف الخطاب بأنه “كم دلالي”، لكونه الخيط الجامع بين هذه الصور المتعددة للخطاب.

أهمية الوعي بتعددية الخطاب

وقيمة هذا الوعي بتعددية الخطابات حجمًا وشكلًا وموضوعًا عظمى، لسببينِ مهمينِ:

  • الاستفادة من التقنيات المطروحة في مقاربة خطابات هذه المجالات المتعددة والتخصصات المختلفة، على صعيد بعضها البعض، انطلاقًا من حقيقة معرفية مفادها:

أن ما وضُح في مجال ما يُستعان به على ما غمض في مجال آخر، ولكن دون عبثية أو خلط، أي مع مراعاة تفرد المجالات واختلافها.

  • عدم الفصل في الخطابات بين الأقوال والأفعال، بعبارة أخرى:

على صاحب الخطاب أن يعرض أفعاله على أقواله، فندفع بذلك إمكانية تضارب الأفعال مع الأقوال بوصفه احتمالًا ممكنًا يقع فيه صاحب الخطاب.

الارتباط بين جوانب الخطاب

الثاني: التأكيد على الارتباط بين جانبين من جوانب الخطاب: الأول: شكل الخطاب ومعناه من جهة، والثاني: تحقيقه لغرض معين يقصده صاحبه منه.

يمثل هذا الغرض “مغزى خطابه” من جهة أخرى، إذ إن الخطاب –في العمق– مجموعة من الألفاظ والمعاني التي تُطرح تحقيقًا لمجموعة من المقاصد الظاهرة والخفية عند صاحبه.

وقيمة الوعي بهذا الارتباط بين هذين الجانبين من الخطاب: جانب المعنى وجانب المغزى، هو أنه يجعل مساءلة الخطاب عن مقصده ومغزاه صنوًا وضرورةً لمساءلته عن حقيقة لفظه ومعناه.

ما الهدف من الخطاب؟

مفهوم الخطابمنبع هذه الضرورة هو أن للخطاب دومًا مغزاه الذي هو أكبر من معناه، وعليه فعلى متلقي الخطاب دومًا أن يُسائل الخطاباتِ المطروحةَ عليه، عن مغزاها بعد وعيه بمعناها، ولا ينغلق في ظاهر معناها الذي يحاول أن يُغطي على تقطير مغزاها.

على سبيل المثال: “الإعلان” بوصفه نوعًا من الخطابات، لا يقول لك: “اشتر السلعة الفلانية”، كما هي حقيقة مغزاه.

لكنه يأتيك بالسلعة ضمن وصلة إشهارية، تكون السلعة في هذه الوصلة الإشهارية محققة لقيمة من القيم الإنسانية، لينجذب الإنسان للسلعة لا بوصفها متميزة في ذاتها أو أنها محققة لمنفعة مادية له، ولكن بوصفها محققة لتلك القيمة الإنسانية المبثوثة في الوصلة الإشهارية.

اقرأ أيضاً:

الجزء الأول من المقال، الجزء الثاني من المقال

الجزء الثالث من المقال، الجزء الرابع من المقال

الجزء الخامس من المقال

ما هو أسلوب الخطاب وفقا لأنواعه؟

مثل: قيمة لفت انتباه الآخرين أو حيازة إعجابهم كما هو في إعلانات العطور، أو قيمة الرفاهية والراحة كما في إعلانات السيارات، أو قيمة التميز على الأقران والجيران بالنسبة للمرأة كما هو في المساحيق الخاصة بالغسالات العادية.

أما إذا كانت الغسالة أتوماتيك فيأتيك بممثلة مشهورة تشعر المشاهدة بأنكِ لو اقتفيتِ آثارها في استعمالها لهذا المسحوق، فإنكِ ستتميزين تميزها.

وهو ما يعني أن الإعلان في العمق إغراء بـالإنساني القيمي لتحقيق مكاسب مادية.

أو هو تمرير للمادي تحت غطاء الإنساني، أو وفقا لإحداثيات كلامي: يُسرّب مغزاه تحت غطاء معناه.

في الخطاب الديني

كذلك يفعل الداعية الذي يوظف طُهْر مفردات الخطاب الديني ليمرر ثاراته الذاتية، أو صراعاته التصورية، سواء أكانت ثارات من طبيعة سياسية أم صراعات من طبيعة علمية.

معنى خطابه ومنطوقه أنه يدافع عن العقيدة، أما مغزى خطابه المستتر والمسكوت عنه في حالة الثارات الذاتية، فهو أنه ينكّل بخصومه السياسيين، وفي حالة الصراعات التصورية العلمية أنه يدافع عن تصورات فريقه في مقابل تصورات الآخرين.

فهو يستغل معنى الخطاب غطاءً يُمرّر من تحته مغزاه منه الذي هو في الحالتينِ: النيل من الخصوم والتمهيد للذات وأتباعها.

ما يعني أن خطاب هذا الداعية –في العمق– استدراج بالديني القيمي العام إلى ما هو غير ديني، بل هو خاص به.

في الخطاب العلمي

كذلك يفعل العالِم حينما يُغرق متلقيه في تحليلاته وأرقامه وبياناته بوصفها معاني خطابه وواجهته ليمرّر من تحتها مغزاه.

الذي حتما سيكون –في التحليل الأخير– نصرةً لفريق معين أو رأي على آخر، دون تثبت حقيقي من صحة الدلالة المستفادة من تلك الأرقام وهذه البيانات والتحليلات التي قد تكون صحيحة في ذاتها، ولكنها ليست صحيحة من جهة ما رُتّب عليها من دلالة.

الذي يدّعي رواية الحقيقة العلمية ينسى حقيقة مفادها: أن حقيقته التي يرويها هي بالأساس رواية.

في الخطاب الأدبي

أيضًا يفعل الأديب سواء أكان شاعرًا أم ساردًا، فهو يستغل الواجهة القيمية أو التفاصيل الإنسانية التي يستدعيها في بنية عمله ليسقط من خلالها مواقفه وأحكامه الذاتية على الوقائع والأحداث، غاضًّا طرفه عن مدى صحة هذه الأحكام وتلك المواقف التي يبثها تحت غطاء الواجهة القيمية لعمله.

آليات التلاعب والإقناع في الخطاب

مفهوم الخطاب

النقطة الجامعة لكل هؤلاء أنهم يُمرِّرون الذاتي الغائب؛ “اشترِ هذا المنتج”، على مستوى الإعلان، أو “احذر من هؤلاء الخصوم”، على مستوى الداعية الديني، أو “إياك وهذا الرأي”، على مستوى العالِم أو الأديب،

تحت غطاء القيمي الحاضر؛ المعاني والقيم الإنسانية المبثوثة في الوصلة الإعلانية أو النصوص الشرعية المنثورة في كلمة الداعية أو الأرقام والتحليلات العلمية في بيان العالِم أو اللغة والأسلوب في فن الأديب.

لنجد أنفسنا في النهاية نحن المتلقين لهذه الخطابات، قد وقعنا في فخ “لعبة شيطانية” مفادها أننا صرنا أمام أمرين، أحدهما: غائب لا يحضر إلا مستترًا، ألا وهو الذاتي أو النفعي من صراعات وثارات، وتصورات غير منقحة ومكاسب مادية.

الثاني: شاهد يغيب دومًا، وهو المعاني والقيم الطاهرة، فنصير دومًا مع غائب يحضر، وشاهد يغيب.

بعبارة أخرى ووفقا لإحداثيات كلمتي هنا: يُمرِّرُون مغزى الخطاب = الغائب، تحت غطاء معناه = الشاهد.

وفقًا لهذا التلاعب بالخطابات، نحن في حاجة ماسة إلى منظور نقارب من خلاله الخطابات المعروضة علينا.

كيف يتم استغلال الخطاب؟

نتّقي بهذا المنظور تزييف صاحب الخطاب له أحيانًا، من خلال استغلاله لواجهة الخطاب القيمية التي تتمتع بحصانة في أفئدة متلقيه من الناس، ليُسرّب لهم تحت غطاء هذه الواجهة القيمية العامة المتفق عليها، رؤيتَه الخاصة.

فهل يجدي مع هذا التلاعب بالخطابات أن نقاربها من خلال ثنائية اللفظ والمعنى؟! التي تقضي بأن هذا خطاب شرعي لكون معانيه التي تحملها ألفاظُه، هي معانٍ شرعية تنهض على قال الله وقال الرسول صلى الله عليه وسلم؟

كذلك هذا خطاب علمي لكون صاحبه يسرد قوانين وأرقامًا، ويقول: قال العالِم الفلاني والعلاني، وهذا خطاب إنساني لكون صاحبه ينشد للإنسان ما يُزيد في تقديره، وعليه يصير الخطاب مُحصنًا بتحصّن معانيه التي يرفعها هؤلاء واجهةً له!

فهل تجدي تلك المقاربة نفعا مع فخ هذه “اللعبة الشيطانية” الذي يُنصب لنا من خلال صانعي الخطابات؟! وإذا لم تكن مجدية، فما البديل؟ هذا ما سنعرفه فيما هو قادم.

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د . أحمد عزت عيسى

مدرس بكلية دار العلوم جامعة القاهرة، قسم النحو والصرف والعروض