مقالات

الحرب الرمزية .. الجزء الرابع

إحداثيات الحرب

أن أصف ما يحدث على مستوى خطابات الرموز بأنه “حرب”، إنما يعني أننا إزاء تصارع له أبعاده، التي تتمثل في: أسبابه وأهدافه وطبيعته ونتائجه، فحريٌّ بنا أن نقف مع هذه الأبعاد،

إذ إن الوعي بهذه الأبعاد هو سبيلنا لقراءة إجراءات هذه الحرب الرمزية، فدور هذه الأبعاد في كشف إجراءات هذه الحرب الرمزية يشبه الدور الكشفي للإحداثيات في مجالي: الجغرافيا والجبر.

فـ”الإحداثيات” في مجال الجغرافيا، يُقصد بها خطوط الطول والعرض التي تمكننا من معرفة الموقع الحقيقي لنقطة ما على سطح الأرض، وفي مجال الجبر يُقصد بها خطوط طولية وعرضية تمكننا من معرفة علاقات الأجزاء بعضها ببعض في شكل ما،

أي أن دورها في “الجغرافيا” كاشف لموقع نقطة ما في فضائها الأرضي، ودورها في “الجبر” كاشف لعلاقة هذه النقطة بغيرها من النقاط ضمن شكل ما.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

 أهمية الوعي بإحداثيات الحرب

وهذا ما يؤديه الوعي بأبعاد هذه الحرب أو مقاربتها من خلال مفهوم “الإحداثيات”، إذ إن إحداثيات هذه الحرب أو أبعادها التي سأسردها لاحقا، تُعرّفنا حقيقة المواقف التي تبدو في ظاهرها ذات طبيعة قيمية نقية، بيد أنها –في حقيقتها،

وضمن هذه الإحداثيات– تأخذ شكلَ تكتيك لحظي، لا يتغيا سوى كسب موقع جديد ضمن هذه الحرب الشرسة أكثر منه موقفا قيميا يتغيا الفضيلة كما يوحي بذلك ظاهره،

ومن ثم تمثل مقاربة هذه الحرب من خلال تلك الإحداثيات كشفا لحقيقة المواقف القيمية المتخذة من قبل خائضي تلك الحرب، كما تكشف الإحداثيات الجغرافية حقيقة موقع نقطة ما على الأرض.

كما أن مقاربة هذه الحرب من خلال تلك الإحداثيات أو الأبعاد تكشف لنا، علاقة المواقف ذات الطبيعة القيمية التي يتخذها فريق ما، بالحالة المادية التي عليها هذا الفريق ضمن هذا التصارع المضمر،

أي أنها تكشف لنا علاقة ما هو قيمي بما هو تصارعي، كما هو شأن الإحداثيات الجبرية التي تكشف لنا علاقة الأجزاء بعضها ببعض ضمن شكل ما، فثمة مواقف قيمية لها أهداف تصارعية أكثر منها أهدافا قيميةً تتغيا الحق والفضيلة، وسوف نرى مصداق ذلك لاحقا.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

تفسيرات خاطئة

قصة قصيرة عن سوء الظن 1024x640 - الحرب الرمزية .. الجزء الرابعوقبل أن أشرع في تفصيل تلك الأبعاد أو الإحداثيات، أودُّ أن أنبّه إلى أمرين قد يتواردان على ذهن قارئي إزاء ما أقول:

سوء الظن بالآخرين

الأول: أن قارئي قد يتصوّر أن كلامي مبني على تحميل الأفعال الطاهرة النقية في ظاهرها، مضامين تصارعية غير نقية، ومن ثم فهو يتضمن قدرا كبيرا من إساءة الظن بالآخرين، فأقول دفعا لذلك الوارد الممكن على عقل قارئي:

إن ما أطرحه تحليلا ورؤيةً هو محصلة مواقف عدة، رفعها تواترُها في الوجود المعيش وقوعا، والتتبع العقلي المستقري لها بحثا، من مستوى الحدس الظني إلى مستوى الحس الملموس، ومن ثم فهو ليس رجما بالغيب، بقدر ما هو تحليل وقراءة لمواقف عايشناها واقعا وحدوثا،

ورصدتها أيدي باحثين هنا وهناك معرفة وعلما، دون أن تلمسها يد باحث تربط بين ظاهرها ومضمرها، وتجمع أشباهها بنظائرها، وتربط بين الأقوال القيمية والأحوال المادية لأصحاب هذه الأقوال، وتصل بين المرصود بحثيا والملموس واقعيا،

لتنتهي بنا تلك اليد الباحثة إلى: أنها الحرب، ولكن بشكل جديد، وضمن لغة مختلفة، سيظل المرء منّا عاجزا عن قراءة لغتها، والوعي بآليات اشتغالها، طالما أنه محجوب عن أبعادها وتحريكها لأصحابها الخائضين لها.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

اقرأ أيضاً:

الجزء الأول من المقال

الجزء الثاني من المقال

الجزء الثالث من المقال

نفي الخطاب

الثاني: أنه قد يظن قارئي أن القصد من كلامي هو تقويض الخطاب الديني أو العقلاني أو العلمي، من خلال نفي هذه الخطابات من أساسها، لا سمح الله، في حين أن القصد هو تفكيك هذه الخطابات لكشف ما يُمارسه بعض أصحابها من أمور تتنافى مع ما قامت هذه الخطابات من أجله أصلا، وصولا إلى إعادة بنائها مُحرَّرةً من تلك الأوهام التي تصيبها بالعجز بل بالمرض.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

بعبارة أخرى: الغرض هو بيان أسباب لا معقولية العقل فيما يحاول تعيينه أحيانا، وكذلك لا دينية الخطاب الديني عند البعض فيما يحاول عرضه ودعوة الناس إليه أحيانا، ولا علمية الخطاب العلمي عند آخرين فيما يحاول حدّه وبيانه،

فالمقصد هو فضح قصور هذه الخطابات فيما تحاول صوغه، وبيان الأمراض التي تنخر عودها من الداخل، وتعرية الأسباب المفضية لهذا القصور، والنتائج المترتبة على كل ذلك من كوارث بتنا نحياها على أكثر من صعيد.

 ضرورة الفهم العميق

كل ذلك بغية الوصول إلى فهم عميق لمشاكل هذه الخطابات وأوجه قصورها، فهم لا يكتفي بمجرد الرصد السطحي لهذه المشاكل دون أن يمنحنا فهما للأصول المؤسِّسة لأوجه قصورها المرصودة، إذ إن الاكتفاء بالرصد السطحي للمشاكل سيجعل كلامنا مجرد كلامٍ نظريٍ لا يُغيّر من الواقع المعرفي والمعيش شيئا مذكورا،

لأنه كلام ينهض على فهم عاجز عن طرح البديل، في حين أن الفهم العميق المبدع هو الذي يتخذ من تشخيص المشكل منطلقا ليكشف عن الآليات والممارسات التي أنتجت هذا المشكل، وهو ما يجعله فهما تحويليا، أي أنه يفضي في النهاية إلى صوغ الواقع المعرفي صوغا جديدا يُحرِّره من أوهامه التي أسَّسَتْ أمراضه، ومن ثم يُحوّله عما كان عليه من قبل.

التبجح الأخلاقي

 

shutterstock 783698326 - الحرب الرمزية .. الجزء الرابع

إن مشاكلنا ومحننا تطورت، فما بتنا نشكو منه –في المقام الأول– ليس غياب المتدين أو ضياع الضمير كما يدّعي ذلك بعضنا، أو عدم إعمال العقل والمناهج العلمية كما يزعم آخرون، إن أخطر ما يهددنا هو “التبجح الخُلُقي” و”الادّعاءات العريضة”،

حيث يزعم أناسٌ أنهم يُجسّدون القيم الدينية أو العقلية أو العلمية أو الإنسانية في الوقت الذي يمارسون فيها فُجْرًا خفيا، لا يَخْفَى على أحدهم فضلا عن الآخرين، أي أن مشكلتنا باتت –في المقام الأول– مع محتكري التدين والعقلانية والعلمية والإنسانية، هؤلاء الذين يظنون أنفسهم محتكري الحياة.

مشكلتنا بالأساس مع الإنسان الذي بالداخل، هذا الإنسان الذي رحنا نبحث له عن حقوقه، ونسينا مسؤوليته تجاه ذاته أولا، ذاته التي لا تنفك تتسلّط عليه تحت أشكال وألوان أخفى وأدق من سابقتها،

فضلا عن مسؤوليته تجاه الآخرين ثانيا، فتسلطت هذه الذات على الموضوعات التي ادعينا أننا أربابُها، فاستحالت هذه الموضوعاتُ بقيمها خَدَمًا لذواتنا، فصرنا لا ننصاع إلى قيمها القارّة فيها بقدر ما ثنينا عنق هذه القيم لتنقاد لنا.

أين الحل؟

وهذا الانقلاب في الأدوار لا ينكشف للذات الإنسانية إلا بأمرين: الأول: إخضاع هذه الموضوعات سواء أكانت علمية أم دينية أم عقلانية أم إنسانية للتفكيك، لا لنُقوّضها،

ولكن لنفهم كيف صارت هذه الموضوعات بقيمها الطاهرة النقية سبيلا لهذا الذي صرنا إليه حيث خرائب المعنى ونقائض العقل التي خيمت على واقعنا. والثاني: نقد هذه الذات وكشف وهمية سيادتها على الموضوعات.

وعليه فالمزمع عرضه –قادما– هو إحداثيات تلك الحرب، لكونها تمثل مهادا لتفكيك تلك الموضوعات التي تُخاض هذه الحرب على ظهرها، ثم –لاحقا– عرض الأوهام المؤسِّسة لهذه الحرب عند خائضيها، لكونها تمثل بالأساس نقدا للذات الخائضة لتلك الحرب وكشفا لوهمية سيادتها على موضوعاتها.

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*****************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د . أحمد عزت عيسى

مدرس بكلية دار العلوم جامعة القاهرة، قسم النحو والصرف والعروض

مقالات ذات صلة