مقالاتقضايا وجودية - مقالات

لغة الجينات.. لغة الله!

العلم يقدم سببا كافيا للاعتقاد في وجود الله!

عبر مراحل حياته الفكرية والأكاديمية، ولأكثر من خمسين عاما، كان الفيلسوف البريطاني «أنطوني جيرارد نيوتن فلو» Antony G. N. Flew  (1932 – 2010) من أهم مُنظري الإلحاد على مستوى العالم، بل لقد بلغ اقتناعه بفشل كافة الحجج الأنطولوجية على وجود الله أن نشر أكثر من ثلاثين كتابا، جادل فيها بأن هذه الحجج لا معنى لها نظرا لاستحالة خضوعها للاختبار لإثبات صحتها أو بطلانها (وجهة نظر الوضعية المنطقية)، كما انتقد فكرة الحياة بعد الموت وغيرها من الأفكار التي تنادي بها الأديان.

هنالك إله

وفي سنة 2001 انتشرت شائعات بأن «فلو» قد تحول من الإلحاد إلى الربوبية، الأمر الذي سارع بنفسه إلى نفيه على موقع الشبكة العلمانية Secular Web Website! كان «فلو» في ذلك الوقت يخطو أولى خطواته على طريق التحول نحو الإيمان بالخالق، لاسيما بعد أن وجد علامات استفهام كبرى _علمية وفلسفية_ تعترض فكرة الإلحاد. وفي ديسمبر من سنة 2004، وبعد أن أصبح في الحادية والثمانين من عمره، أعلن «فلو» صراحة أنه قد تخلى تماما عن فكرة الإلحاد لصالح فكرة الربوبية، وعكف على تأليف كتاب نسخ به كل كتبه السابقة، نشره سنة 2007 تحت عنوان «هنالك إله» There is a God، ليواجه في أواخر حياته أشرس حملة تشهير من قبل المواقع الإلحادية على مستوى العالم.

لكن «فلو» لم ترهبه التشهيرات الرخيصة التي يلجأ إليها عادة دعاة الإلحاد، بل واجههم بذات منطقهم وحججهم: منطق العلم، مؤكدا أن «الحجج الأكثر إثارة للإعجاب على وجود الله هي تلك التي تدعمها الاكتشافات العلمية الحديثة، لاسيما حجة التصميم الذكي Intelligent Design للخلية الحية»، وأن التسليم بوجود إله ذي ذكاء خارق هو التفسير الوحيد الممكن _والذي لا يمكن تجنبه_ عن أصل الحياة وتعقيد الطبيعة، إنها النتيجة الأخيرة التي تؤدي إليها اكتشافات الحمض النووي أو جزيء الدنا DNA.

جزيء الدنا

ثمة تشابه كبير بين جزيء «الدنا» في خلايانا وبين برنامج حاسوبي نوعي معقد؛ فهذا الأخير يتألف من متسلسلة من الآحاد والأصفار (تسمى الكود الثنائي Binary code)، وفي تسلسل وترتيب هذه الآحاد والأصفار يكمن سر عمل البرنامج الحاسوبي.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وبالمثل، يتألف جزيء «الدنا» من أربع قواعد كيميائية: الأدنين Adenine، الجوانين Guanine، السيتوزين Cytosine، الثايمين Thymine، ويتم اختصارها عادة بالحروف A, G, C, T ، وتُفصح طريقة ترتيب هذا القواعد أو الحروف (بشكل مماثل لترتيب الآحاد والأصفار) عن طبيعة المعلومات الوراثية التي يخزنها «الدنا»، ومن ثم تمثل هذه الحروف كود أو أبجدية أو لغة «الدنا».

والمدهش أن طول هذا الكود يصل في أية خلية واحدة من خلايانا الجسدية إلى ثلاثة مليارات حرف! ولكي نستوعب مقدار معلومات «الدنا» في الخلية الواحدة علينا أن نقوم بالقراءة الحية لهذا الكود بمعدل ثلاثة حروف في الثانية، الأمر الذي يستغرق ما يقرب من واحد وثلاثين عاما، هذا إن كانت لدينا القدرة على القراءة بشكل متواصل ليلا ونهارا دون انقطاع! وما هو فريد هو الكيفية التي تتسلسل بها الحروف لتشكل أبجديات الوراثة (أو لغة الرسائل الجينية) لكل شخص، وتُحدد هويته وأنماط سلوكه!

فرانسيس سيلرز

ولا غرابة في أن يتخذ عالم الجينات المعروف «فرانسيس سيلرز كويلينز» Francis Sellers Collins (من مواليد 1950) الموقف ذاته. لقد كان من عتاة الإلحاد في العالم، حتى التحق بالمدرسة الطبية وواجه قضية الحياة والموت بكل تعقيداتها غير المفسرة!

وظلت الحيرة تؤرقه حتى حين عمل مديرا لمشروع الجينوم البشري (أكبر مشروع بيولوجي تعاوني على مستوى العالم)، وبعد أن قاد فريق عمله لقراءة 3.1 مليار حرف من حروف الجينوم، وجد نفسه مضطرا للاعتراف بما أنكره طويلا: وجود الله. هكذا صرح في ثقة قائلا: «لقد وجدت الله! إن هذه اللغة التي تحمل كافة المعلومات عن البشر لا يمكن أن تنتظم حروفها مصادفة، بل هي لغة كائن أسمى، لغة الله.

“لغة الجينات “اللغة التي خلق الله بها الحياة

إن أناقة وتعقيد أجسادنا فضلا عن الطبيعة لهي انعكاس لخطة الله. إن إله الكتاب المقدس هو أيضا إله الجينوم، يمكنك أن تعبده في دور العبادة أو في المختبر، إن خلقه رهيب، رائع، معقد، وجميل». ويستطرد في كتابه «لغة الله»The Language of God  قائلا: «من الذي كتب هذا النص الإعجازي؟ من الذي وضعه داخل الخلية؟ وكيف يمكن تفسير هذا الجمال، وهذه الدقة، وهذا التعقيد؟

اضغط على الاعلان لو أعجبك

الأمر شبيه بتجوالك على شاطئ البحر ناظرا إلى الرمال، فإذا بك تجد عليها عبارة (قيس يحب ليلى)، أنت موقن في قرارة نفسك أن أمواج البحر لم تشكل تلك العبارة، بل إن شخصا ما قد سطرها بالرمال، وهكذا هي لغة الدنا، رسالة حب دقيقة من قبل الله ترشدنا لكيفية عمل الخلية»!

في السادس والعشرين من يونيو سنة 2000، هنأ الرئيس الأمريكي «بيل كلينتون» أولئك الذين استكملوا رسم خريطة الجينوم البشري، وعلق قائلا: «اليوم نتعلم اللغة التي خلق الله بها الحياة، ونكتسب المزيد من المعرفة عن تعقيد وجمال وروعة الهبات السماوية المقدسة».

ما هو جزيء الدنا؟ إنه برهان واحد بين براهين ساطعة على أن الله ليس فقط الخالق الواحد الأحد المحب لخلقه، بل هو من يخلع على وجودنا المغزى كي نراه في خلقه!

«يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32)» (الصف: 8).

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

اقرأ أيضا:

نظرية التطور في ميزان العقل

اضغط على الاعلان لو أعجبك

يا محاسن الصدف، هل نشأ العالم من قبيل الصدفة؟

التغيرات وعلاقتها بالإلحاد

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية

مقالات ذات صلة