إصداراتمقالات

لذة وحب وشوق (1)

في مجتمعات وعصور سادت فيها المناهج الحسية، وتبوأت المادية موضع الرأس من الرؤى للعالم، وأصبحت نفعية النظر تحت الأرجل هي رأس حربة العاملين- في وضع كهذا كان لا بد أن تحتل اللذات الحسية موضع الاستعلاء، خاصة وهي المستعلية في أوهام العموم منذ قديم زمن. فاعتقدوا أن السعادة ليست إلا هي، والعشق والشوق لا يكون إلا لها.

ولذلك تم حصر السعادة في اللذة فقط، وحصر اللذات في المدركة بالحس الظاهر، وإن اعترفوا بغيرها فبوصفه بالوهم والخيال الذي لا مقابل واقعي له، أو أنها في مرتبة أقل من نظائرها المحسوسة.

وننظر هنا في أحد كتب الحكماء من تراثنا؛ لنستكشف معانٍ أخرى لتلك المفاهيم، وهو إشارات رئيس الفلاسفة[1]. ولأن التصديق فرع التصور، وجب أن نتصور هذه المعاني قبل الحكم عليها.

يقول الطوسي في شرحه للإشارات: “السعادة ما يقابل الشقاوة، والمراد منها الحالة التي تكون أو تحصل لذوي الخير والكمال، من جهة الخير والكمال”. فالسعادة تحصل لمن أصابه خير أو كمال، بسبب هذا الخير والكمال.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

أما اللذة أو الابتهاج عند الشيخ الرئيس فهي “إدراك ونيل لوصول ما هو عند المدرِك كمال وخير، من حيث هو كذلك”. فاللذة تكون بإدراك الشيء الملتذ به وبالحصول عليه، والملتذ به هو شيء يحسبه الملتذ كمال وخير له.

والإدراك والنيل-أو الإدراك والحصول-كلاهما مطلوبان لحصول اللذة والبهجة والحب. فمن لا يدرك الخير لا يلتذ به، مثل الشخص ذي الصحة الذي هو غافل عن صحته، وغافل عن هذا الخير فلا يلتذ بصحته وعافيته، ولا يدرك قيمتها إلا إذا فقدها.

وما لا ينال أو يُحَصّل قد لا يلتذ به، كمثل من يعلم بوجود مقامات العارفين لكنه لم يتذوقها، فيغيب عنه الالتذاذ والحب والشوق لها، فمعرفة أن العسل موجود لا تكفي للالتذاذ به. لأن معرفة المحسوسات بحدودها العقلية لا يقتضي إدراكها اقتضاء الإحساس بها كما يوضح الطوسي.

ولكل خير تأثير، وإدراك الخير من حيث هو مؤثر حب له. والحب إذا أفرط سمي عشقًا، وكلما كان الإدراك أتم والمُدرَك أشد خيرية كان العشق أشد.

والإدراك التام لا يكون إلا مع الوصول التام بما يتم إدراكه، وبالتالي فالعشق التام لا يكون إلا مع الوصول التام. ويكون ذلك لذة تامة وابتهاجا تاما. فإذن العشق الحقيقي كما يوضحه الطوسي: هو الابتهاج واللذة بتصور حضور المعشوق.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

والشوق هو الحركة إلى تتميم هذا الابتهاج وهذه اللذة، ولكي يكون هناك شوق لا بد إذن أن يكون المعشوق حاضرا من وجه، غائبا من وجه، كأن يكون حاضرا في الخيال غائبا عن الحس.

و “كل مستلذ به فهو سبب كمال يحصل للمدرِك وهو بالقياس إليه خير. فـ” لما كانت اللذة إدراك كمال خيري، يحصل لمدرٍك ما. كان كل مستلذ به، أي كل ما يعد لذيذًا، فهو سبب كمال يحصل لمدرِك ما”.

وتختلف الأمور اللذيذة للإنسان حسب القوى التي فيه، من شهوة وغضب وعقل: “فالشيء الذي هو عند الشهوة خير، هو مثل المطعم الملائم، والملمس الملائم. والذي هو عند الغضب خير، فهو الغلبة. والذي هو عند العقل خير: فتارة وباعتبار، فالحق. وتارة وباعتبار، فالجميل. ومن العقليات نيل الشكر، ووفور المدح، والحمد والكرامة، وبالجملة، فإن همم ذوي العقول في ذلك مختلفة”.

فالخير هنا نسبي، فالخير الذي للشهوة يختلف عن الخير الذي للعقل، وقد يكون الذي للشهوة خير؛ هو للعقل شر.

ثم يُعرّف الخير، فيقول: “وكل خير بالقياس إلى شيء ما، فهو الكمال الذي يختص به، وينحوه باستعداده الأول”. فالخير بالنسبة لشيء هو كماله المُعد له هذا الشيء، فالخير للشهوة هو كمالها الذي هي مستعدة لتحصيله بتكوينها وطبيعتها.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

“فإذا نظرت في الأمور وتأملتها، وجدت لكل شيء من الأشياء الجسمانية كمالا يخصه. وعشقا إراديا أو طبيعيا لذلك الكمال. وشوقا طبيعيا أو إراديا إليه إذا ما فارقه، رحمة من العناية الأولى على النحو الذي هي به عناية”. فمن رحمة الله بمخلوقاته وعنايته بها؛ أن جعلها تشتاق لكمالاتها إذا فقدتها لتتحرك إليها، وتلتذ بها وتعشقها إذا حصلتها.

ثم ينتقل الشيخ بعد ذلك إلى كمال الجواهر العقلية واللذة التي تكون للعقول: “وكمال الجوهر العاقل: أن تتمثل فيه جلية الحق الأول، قدر ما يمكنه أن ينال منه ببهائه الذي يخصه. ثم يتمثل فيه الوجود كله على ما هو عليه، مجردا عن الشوب. مبتدأ فيه بعد الحق الأول، بالجواهر العقلية العالية. تمثلا لا يمايز الذات، فهذا هو الكمال الذي يصير به الجوهر العقلي، بالفعل”.

وهنا يشرح الشيخ الرئيس اللذة العقلية المحضة الخالصة عن الشوب، شوب الظن والوهم. ويضيف الشارح الطوسي أن اللذة العقلية أكبر من الحيوانية بالكمية والكيفية.

أما الكيفية فلأن العقل يصل لكنه المعقول وحقيقته، والحس لا يدرك إلا كيفيات تقوم بسطوح الأجسام التي تحضره، فالعقلي خالص عن الشوب إلى الكنه، والحسي شوب كله.

وأما الكمية فلأن عدد تفاصيل المعقولات لا يكاد ينتهي، والمدركات بالحواس محصورة في أجناس قليلة، وإن تتكثر فبالأشد والأضعف، فلا فرق مثلا بين اللذة التي من المأكولات المختلفة إلا شدة وضعفا، واللذات الحسية محصورة العدد قليلة.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

يُتبع…

[1]– كتاب “الإشارات والتنبيهات”، لأبي علي ابن سينا، مع شرح نصير الدين الطوسي، تحقيق الدكتور سليمان دنيا، دار المعارف-القاهرة، سلسلة ذخائر العرب العدد 22، الطبعة الثالثة، القسم الرابع.

أحمد عزت هلال

د. أحمد عزت

طبيب بشري

كاتب حر

له عدة مقالات في الصحف

باحث في مجال الفلسفة ومباني الفكر بمركز بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث

صدر له كتاب: فك التشابك بين العقل والنص الديني “نظرة في منهج ابن رشد”

حاصل على دورة في الفلسفة من جامعة إدنبرة البريطانية

حاصل على دورة في الفلسفة القديمة جامعة بنسفاليا

مقالات ذات صلة