العقل ومدارس الفلسفة الإسلامية – الجزء الخامس عشر
المدرسة المشَّائية: (13) ابن سينا: الشيخ الرئيس وكتابه الشفاء
فلسفة الوجود السينوية: (3) وجود العالم
تحدثنا –صديقي القارئ صديقتي القارئة– في الدردشة السابقة (ج 14) عن مقدمةٍ لفلسفةِ الوجودِ عند ابن سينا: الممكن الوجود، والواجب الوجود، وخواصهما. ولنواصل –في هذه الدردشة– مقاربتَنا التأويليةَ لفلسفةِ الوجودِ السينوية: وجود العالم.
ه. وجودُ العالمِ: نظريةُ الفيض
1. فيضُ العالمِ عن واجب الوجود
إذا كان الفارابي قد أبدع تقسيم الوجود إلى الواجب والممكن، فإن ابن سينا قد أبدع تقسيم الممكن إلى ممكن بذاته، ولكنه واجب بغيره. وعلى ذلك، ينقسم الوجود عند ابن سينا إلى أقسامٍ ثلاثة: واجب الوجود بذاته (الله تعالى). ممكن الوجود بذاته واجب الوجود بغيره (العالم). ممكن الوجود (الحوادث).
بذلك حاول ابن سينا أن يوفق بين القائلين بقدم العالم وخلقه. هل نجح ابن سينا في هذا التوفيق أم لا؟ تلك مسألة يمكن للمعاصرين تلافي قصورها، والبناء على ما صح منها بأدلة جديدة مستأنفة.
2. تأويل الفيض السينوي
يظهر –كما يقول دي بور– أنه ليس بمستحيل عند ابن سينا أن يُوجد جوهرٌ من عدم أو أن ينعدم بعد الوجود، فنظرية الفيض السينوية يمكن تأويلها –بناءً على معطيات ومبادئ علم ما قبل الطبيعة السينوي– على النحو الآتي:
- إنَّ ما فاضَ عن الأولِ واجبِ الوجودِ هو فيضٌ معلولٌ (العالم وسائر الموجودات مسببة عن مسبب) عن علته (الله تعالى)، وواجب الوجود “علة تامة حقيقية”، لا “ناقصة أو مُعِدَّة”. ومن سماتِ العلةِ التامةِ الحقيقيةِ أن تكونَ عالمةً حرةً مختارةً مريدةً (راجع الفرق بين العلة التامة الحقيقية والعلة الناقصة المُعِدَّة: أنواع العلل: العقل والعلية ج 2)، ومن ثم يتهاوى اتهامُ الفارابي وابن سينا بأنَّ العالمَ صدرَ صدورًا جبريًا أو قسريًا عن واجب الوجود. إن واجبَ الوجودِ علةٌ تامةٌ كاملةٌ مطلقةٌ، فلا يصدرُ عنها شيءٌ بغيرِ تقديرٍ وقدرةٍ وإرادةٍ وعلمٍ، وإلا لم يكن علةً تامةً. هذه ناحية.
- من ناحية أخرى، إنَّ الفيضَ هو خروجٌ من القوة إلى الفعل، والعالم كان بالقوة في علمِ واجبِ الوجودِ ثم أوجده بالفعل عن طريق الفيض.
- أما مسألة العقول العشرة فمأخوذة من علم الفلك القديم (فلك بطليموس)، وبسقوط هذا العلم لا يصح القول بالفيض، فتسقط بسقوطه نظريةُ العقولِ الفيضيةِ من أساسها.
- لكن سقوط نظرية العقول لا يعني إلا سقوط هذه الفرْضِية الفارابية السينوية، فسقوط نظرية العقول لا يعني أن ليس للعالم خالقًا أو واجبًا للوجود، وكل ما يعنيه إن اجتهاد الفارابي وابن سينا الفلسفي لا يصح الآن في عصرنا، ومن ثم فليس لهما إلا أجر اجتهادهما الفلسفي.
- على ذلك، تبقى نظريةُ الخلقِ هي النظريةُ الأنطولوجيةُ الأقربُ معقوليةً، وعلى الفلاسفة المسلمين المعاصرين إقامةُ الأدلةِ الفلسفيةِ على صحتها. وهذا هو التجديد المطلوب من فلاسفتنا المسلمين والعرب المعاصرين أن يضيفوه من إنجاز إلى ما أنجزه الكندي، ونعذر الفارابي وابن سينا في اجتهادهما (لا أن نكفرهما، فقد مضى زمنُ التكفير وحانَ زمنُ التفكير)، فتتصل فلسفتُنا المعاصرةُ بتراثنا الفلسفي القديم وصلًا لا ينقطع تيارُه ولا تتوقف إبداعاتُه، كما هو الأمر عند غيرنا من فلاسفة الغرب الذين لا يكفّون كل يوم عن وصل حاضرهم بماضيهم وتراثهم الفلسفي القديم، فيتواصل إبداعُهم الفلسفيُ ولا ينقطع، فهل نحن –أحفاد الفلاسفةِ المسلمين والعربِ– أقل شأنًا منهم؟!
3. تأويل ابن سينا للفارابي
هل كان ابن سينا مقلدًا للفارابي؟ إذا كان الشيخ الرئيسُ قد تبنى المنظومة الفيضية الميتافيزيقية الفارابية (الواجب والممكن والعقول العشرة) إلا أنه أوَّلها ووجّهها توجيهًا سينويًا خالصًا، فلا نقع في المقولة الخاطئة: إن ابن سينا كان مقلدًا للفارابي، لمجرد التشابه الظاهري بينهما فيما يتعلق بنظرية الفيض، فالمنظومة الفكرية الواحدة يمكن لها أن تؤدي –عن طريق التأويل– أدوارًا مختلفة، بل متناقضة، بمعنى أن عناصرَ الرؤيةِ الكونيةِ إلى العالمِ (راجع: العقل ومدارس الفلسفة الإسلامية ج 1) يمكن أن تكون واحدةً ولكن تأويلها يختلف من فيلسوفٍ لآخر، فلا يقال إن عناصر الفلسفة الإسلامية مأخوذةٌ من عناصر الفلسفة اليونانية، بحيث تكون الفلسفةُ الإسلاميةُ ترجمةً عربيةً لحروفٍ يونانية من الفلسفة الإغريقية، لأن توظيفَ العناصرَ الواحدةِ –بعد تأويلها– توظيفًا مختلفًا –وفقًا لظروف عصر كل فيلسوف، كما فعل الفارابي مع أرسطو وأفلاطون وأفلوطين، وكما فعل ابن سينا مع الفارابي– يجعل هذه العناصرَ تختلفُ من فيلسوفٍ لآخر، ويجعل من كل فيلسوفٍ لاحق أصيلًا، بالمقارنة مع كل فيلسوفٍ سابق، سواء أكان من أمته أم كان من أمة أجنبية أخرى.
خلاصة تأويلية:
إن تأريخ الفلسفة يمكن أن نقاربه مقاربةً تأويليةً (وهو منهجي الذي أنتهجه)، بأن ننظر إليه من زاوية الهرمنيوطيقا، أعني منهج فهم وتفسير النصوص. إن قولنا بالاستخدام السينوي المختلف للميتافيزيقا الفيضية الفارابية يعني أن ابن سينا قد أعاد تأويل الفارابي، كما أعاد تأويل بيثاغوراس وأفلاطون وأرسطو وأفلوطين وغيرهم، وعلينا نحن المعاصرين تأويلُ كلِ هؤلاءِ وغيرهم وفقًا لمعطيات عصرنا.
السؤال الذي يعرضُ نفسَه الآن: لقد أوجدَ واجبُ الوجودِ اللهُ تعالى العالمَ، فهل يعتني اللهُ بالعالم الذي أوجده؟ أم أوْجَدَه وانتهى دورُهُ ولمْ يَعُدْ معتنيًا به، أو لمْ يعتنِ به ابتداءً وانتهاءً كما قال أرسطو؟ وإذا كانَ اللهُ معتنيًا بالعالم الذي أوجده، فكيف نفسرُ وجودَ الشرِ في العالم، مع قولِنا بخيريةِ اللهِ المطلقة؟
في الدردشة القادمة –بإذن الله– نواصل رحلتنا التأويلية مع فلسفة الوجود السينوية: وجود العناية والشر في العالم.
مقالات ذات صلة:
الجزء الأول من المقال، الجزء الثاني من المقال، الجزء الثالث من المقال
الجزء الرابع من المقال، الجزء الخامس من المقال، الجزء السادس من المقال
الجزء السابع من المقال، الجزء الثامن من المقال، الجزء التاسع من المقال
الجزء العاشر من المقال، الجزء الحادي عشر، الجزء الثاني عشر من المقال
الجزء الثالث عشر من المقال، الجزء الرابع عشر من المقال
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا