فن وأدب - مقالاتمقالات

يوسف إدريس.. ظل ثقيل أم موهبة لاذعة؟ – الجزء الثاني

يحدثنا الكتاب عن أسباب محددة تتعلق بالأساس برغبة السلطة في دعم كاتب معين وتحمسها لها مقابل أن يؤدي دورًا في خدمتها، لكن هذا الدعم لا يناله كل أحد، حتى لو سعى إليه، إنما من تختاره السلطة، وتتوافر فيه الشروط التي تريدها.

هنا يقول: “لا بد أن تتوفر في الشاعر أو الكاتب المدعوم والمبشر بالحماية من جناب السلطان صفات عديدة، أولها أن يكون موهوبًا كبيرًا كي يكون قادرًا على الإقناع والإمتاع والمسامرة، وكذلك الدفاع عن الحاكم عند الطلب والقدرة على كتابة الخطابات العديدة، وفي أوجهها المختلفة الاجتماعية والسياسية والدينية والثقافية، وأيضًا الهجوم على خصوم الحاكم وتسفيههم والسخرية منهم لدرجة التمزيق، ولا بد أن تأتي كل الخطابات في صياغات طبيعية، أو شبه طبيعية وهذا لا يمنع أن يثأر الشاعر أو الكاتب لنفسه عندما تدور الدوائر لإقصائه”.

يوسف إدريس والسادات

كي يثبت انطباق هذا الأمر على يوسف إدريس تحدث عن علاقته بالرئيس السادات، بل يتهم إدريس أنه كتب للرئيس المصري الراحل بعض كتبه ومقالاته، بما جعل أهل الحكم يطلبون صراحة من الدكتور طه حسين أن يقدم مجموعة إدريس القصصية “أرخص ليالي”. وعلاقة السادات بيوسف إدريس باتت متفقًا عليها، بل إن يوسف إدريس نفسه يعترف: “ظللت أعمل مع السادات حتى نقلني تمامًا من وزارة الصحة إلى المؤتمر الإسلامي لأتفرغ لكتابة ثلاثة كتب تحمل اسمه، واعتبرتها مهمة وطنية عليَّ إذ إن أحدها كان عن حرب السويس الوطنية والعدوان الثلاثي، وقع في خمسمائة صفحة وترجم ونشر باسم السادات في دار نشر هندية وزعته بالإنكليزية على العالم أجمع”.

البعض يقول إنه قد اختفى من الساحة العامة، إثر تعليقات له علنية ضد الوضع السياسي في عهد السادات ولم يعد للظهور إلا بعد حرب أكتوبر 1973، ليصبح أحد كبار كتاب صحيفة الأهرام. لكن ملفًا صدر في جريدة “القاهرة” في 13 يوليو 2004 تحت عنوان “يوسف إدريس.. أمير الحكي” حوى آراء مختلفة، إذ قال الكاتب السياسي محمد عودة: “يوسف إدريس لم ينقلب على اليسار.. هذا كلام مقاهٍ”، فيما أعلن شيوعيون في الملف نفسه براءته من تهمة الخيانة بعد نصف قرن من الحملة التي شنوها ضد روايته “البيضاء”، بل إن ميلاد حنا قال إن علاقة إدريس بالسادات كانت متقلبة.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

أما الحديث عن دفع طه حسين أو إجباره أو حتى الإيحاء إليه من قبل السلطة السياسية بكتابة مقدمة المجموعة الأولى لإدريس فهو أمر يحتاج إلى تدقيق، فشخصية طه حسين تجعله عصيًا على الطاعة بهذه الطريقة، كما أن ما كتبه لم يكن مدحًا في هذه القصص، بل إنه عاب عليها عاميتها، وطلب من كاتبها أن يلتفت إلى مهنته طبيبًا، وهو ما كان يُستخدم فيما بعد مثالًا على فشل نبوءة بعض الكبار حيال الكتاب الشبان، بل إن يوسف إدريس نفسه ظل يتحدث عن هذا، ونقل في طبعة تالية تلك المقدمة إلى نهاية الكتاب باعتبارها “بركة”، وهي كلمة وضعها إدريس في سياق ساخر، وظل طيلة حياته حانقًا عل طه حسين.

ماذا قال النقاد عن يوسف إدريس؟

YusufIdris - يوسف إدريس.. ظل ثقيل أم موهبة لاذعة؟ - الجزء الثانيكتاب شعبان يخالف ذلك الذي ألفه الناقد الدكتور محمد فتحي قبل ست سنوات بعنوان “يوسف إدريس أبأس العباقرة”، والذي انطلق فيه من أطروحته للدكتوراة التي تناولت “تكوين المبدع وإبداع الأصالة وأصول النبوغ”، وقال فيه إن إدريس لم يكن من المتكسبين بقلمه، وأنه مات فقيرًا رغم تفرده وموهبته اللاذعة، وهي الموهبة التي لا ينبو عنها شعبان يوسف نفسه حين يقول: “قراءتي تلك لا تمس قيمة يوسف إدريس من قريب أو بعيد”، أو يقول: “عبقرية يوسف إدريس لم تتكرر إلى الآن”.

ربما طغت رغبة الكاتب في إنصاف ثلاثة أجيال سابقة ولاحقة ومتزامنة مع يوسف إدريس –وهي مسألة معروفة عنه في السعي وراء المهمشين والتنقيب عن الجواهر المخبوءة في الأدب المصري– على رؤيته لموقع إدريس من هذا، فحمّله أكبر مما فعل، اللهم إلا في حالتين ذكرهما عن فتور تلقي إدريس لنصوص يحيى الطاهر عبد الله ومحمد حافظ رجب، وهما لاحقين عليه، وقد ثبت فيما بعد أهمية ما أبدعاه، ولو أن أدريس قدمهما وتحمس لهما، ما نقص هذا أو خصم من رصيده شيئًا، ولم يكن بوسع أي منهما أن يزيح إدريس من موقعه المتقدم كاتبًا ذا موهبة طاغية في القصة القصيرة. وهاتان الحالتان في حاجة إلى تفسير آخر.

يوسف إدريس .. خفايا الإبداع

إن المقربين جدًا من يوسف إدريس يعترفون أنه كان “لا يثق في نفسه بقدر كافٍ” على النقيض مما يصدره للآخرين، وربما الغطرسة والاستعلاء والتطاوس الذي كان ينتابه هو نوع من الحيل الدفاعية، حتى لا تنكشف حقيقته، فينهشه الآخرون كما كان يتصور أو يتوهم، وهي مسألة يمكن أن نفهمها على وجه أعمق إن استعدنا تجربته في الطفولة والصبا، والتي أورثته عقدًا لم تذب مع الزمن، وحتى بعد التحقق والشهرة. وبعض ما قاله عن نفسه، مبالِغًا في دوره، أو مقلِلًا من أدوار الآخرين، هو جزء من هذا المسار، والذي دفع إدريس نفسه بعض أثمان له، لخصتها عبارة كاتبة عراقية كانت قد سعت إلى لقائه بأي طريقة بعد أن سحرتها قصصه، فلما تحققت لها أمنيتها وجلست إليه ونالها من تطاوسه كثير قالت: “يا ليتني ظللت أقرأك من بعيد جدًا”.

في ظني أن عوامل أخرى مساعدة أو مصاحبة للموهبة الأدبية تساهم في ذيوع وشهرة وتسيد كاتب وانحسار الأضواء عن نظيره، رغم أن موهبة الأخير لا تكون أقل أو إنتاجه أضعف من الأول، مثل الدور العام للكاتب، وهي مسألة وعاها إدريس، الذي خاض معارك متعاقبة وكان يقول: “حين يكون عقل أمتي في خطر لا تسألني عن الأنواع الأدبية”، أو ما نقله عنه الأديب سعد القرش حين التقاه عام 1991 وقال له إدريس: “هل يمكنك، وأنت تمشي في مظاهرة، تضج بهتافات ومواجهات ورصاص، أن تميل لكي تجلس في ركن وتكتب قصة؟ ألتمس العذر للمبدعين العرب، لأنهم يكتبون في ظروف صعبة، يبدعون ضد تيار الواقع، ولا يستريحون من أزمات متوالية لا تتيح لهم تصور عالم آخر. هذه المتعة، راحة البال، لا يتمتع بها إلا الكاتب خارج الوطن العربي”.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

اقرأ أيضاً: ماذا لو تعلمت الأغنام والأبقار القراءة والكتابة؟

كيف عبث يوسف إدريس بالسلطة؟

يوسف إدريس ٦٦٦ - يوسف إدريس.. ظل ثقيل أم موهبة لاذعة؟ - الجزء الثانيمن ركائز قوة الكاتب إلى جانب دوره العام اعتداده بنفسه، بحيث تصير قامته الإبداعية متناسبة مع قامته الاجتماعية والإنسانية، ومنها القدرة على التجدد والإضافة دومًا، والتعامل الذكي مع دور النشر ومنابر الإعلام، ووجود قوى مبصرة أو عمياء، بفعل التدبير المقصود أو الحظ، لصناعة النجومية.

لكن الكتاب يجعل ركيزة القوة أو النفوذ الوحيدة أو الأعلى للكاتب، بعد الموهبة، هي علاقته الجيدة بالسلطة، وهي مسألة لم تكن من طرف واحد بالنسبة إلى يوسف إدريس، كما يقول هو ردًا على اتهام نجيب سرور له أن السلطة قد عبثت به: “لم تعبث السلطة، أيّ سلطة، بي، العكس هو الصحيح، فقد عبثت بها كثيرًا”.

بغض النظر عن صدق هذا من كذبه فإن العلاقة مع السلطة لم تظل تعمل لصالح إدريس كل الوقت، بل انقلبت ضده في بعض سنوات حكم حسني مبارك حين كتب إدريس كتاب “البحث عن السادات”، ثم حين كتب مقال “ليس صدام وحده المجرم” عقب الغزو العراقي للكويت في أغسطس 1990. وفي هاتين اللحظتين انهالت بعض الأقلام بنقد لاذع ليس على الموقف السياسي ليوسف إدريس إنما على أدبه، واتهمه هؤلاء بأن معينه قد نضب، ولم يعد لديه ما يكتبه، وأثَّر فيه هذا الهجوم كثيرًا، لدرجة أن كتب يقول إن لديه كشكولًا يحوي أفكارًا لعشرين قصة على الأقل، وتحدث عن مسرحية يكتبها بعنوان: “يوم الحساب”.

حقيقة علاقة يوسف إدريس بالسلطة

لو كان الأمر على هذا النحو لمات من تاريخ الأدب كتاب معارضون، ولكانت الدولة المصرية قد تمكنت من تحقيق رغبتها في فوز توفيق الحكيم ومن بعده عبد الرحمن الشرقاوي بجائزة نوبل، إذ كانت تعمل على ترشيح الأول حتى توفي، فرشحت الثاني حتى في العام الذي فاز فيه بها نجيب محفوظ. ولو كان بوسع أهل الحكم أن يسدلوا ستائر العتمة فوق الموهوبين لما سمعنا بأمل دنقل الذي بنى مجده على قول “لا”، أو نجيب سرور الذي بلغ في معارضته ورفضه حدًا بالغًا، ولما وجد صنع الله إبراهيم أي فرصة لنشر أعماله.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لهذا علينا أن نبحث عن أسباب أخرى في تحليل هذه الظاهرة إلى جانب قضية العلاقة بالسلطة، إيجابًا أو سلبًا، وهي مسألة لا يعجز عن فهمها والتمكن من الوصول إليها واحد من أكثر المشتغلين والمنشغلين بتاريخ الأدب المصري مثل شعبان يوسف، كما لا يعجز عن فهم حقيقة أن السلطة ليست فقط إدارة الدولة إنما هناك سلطة النقد، وسلطة الجمهور الذي يتحمس لكاتب ويهمل آخر، وسلطة “أولاد الكار” من المجايلين أو اللاحقين، وهي سلطات عملت وتعمل غالبًا في صالح يوسف إدريس.

لقد ذهبت السلطة التي ساندت يوسف إدريس، بل ذهب هو نفسه، وترك أعماله القصصية لتدهش وتهز أعماق أجيال لاحقة، وهؤلاء في كتاباتهم وحديثهم وثرثرتهم جعلوا اسم الرجل لا يزال يتردد وبقوة، وربما كتاب شعبان يوسف يقع في قلب هذه الأحاديث والكتابات، التي تبرهن على أن الانشغال بإدريس لم ينته بعد، وقد لا ينتهي، ليس بوصفه أول من كتب القصة القصيرة في مصر أو العالم العربي، فهذا غير صحيح، ولا أن كتاباته أزاحت ما قبلها تمامًا، لكن لأنه كان الأكثر تميزًا على هذا الدرب، أو أن المغايرة القوية التي أحدثها في فن الكتابة القصصية قياسًا إلى زمنه كانت واسعة، وحتى لو تجاوزها أو سيتجاوزها جيل لاحق، فإن هذا ليس بوسعه أن يهيل التراب على الإضافة القوية التي جاد بها إدريس على هذا الفن، الذي أصبح –على أهميته وجماله– مغبونًا في وجه انتعاش وانتشار فن الرواية.

مقالات ذات صلة:

الجزء الأول من المقال

كيف كان يعلق محفوظ على الأحداث الجارية؟

اضغط على الاعلان لو أعجبك

الناقد والمبدع والحرب الباردة

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. عمار علي حسن

روائي ومفكر مصري

مقالات ذات صلة