مقالات

زمن الأقزام

لم يحدث من قبل أن امتلك الإنسان مثيلا لتلك القوة الإعلامية الهائلة التي يمتلكها اليوم، والتي تستطيع بإمكاناتها الهائلة أن تُعملق الأقزام –على حد تعبير مفكرنا الراحل زكي نجيب محمود– (أقزام الفكر لا أقزام الجسد)، لتعلو بهاماتهم القصيرة إلى مصاف من يُناط بهم إسداء النُصح، وإصدار القرارات، وتناول أمور العامة،

وهو ما نبأنا به الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله: «سيأتي على الناس سنوات خدَّاعات يُصدّق فيها الكاذب ويُكذّب فيها الصادق ويُؤتمن فيها الخائن ويُخوَّن فيها الأمين وينطق فيها الرُويبضة». قيل: وما الرويبضة يا رسول الله؟ قال: «الرجل التافه ينطق في أمر العامة».

سيادة الأقزام

يكفي اليوم أن تكون صاحب مال (بغض النظر عن كيفية جمعك لهذا المال)، أو ممن يجيدون تقديم فروض الولاء والطاعة لأولي الأمر، أو حتى ممن يجيدون مداعبة مشاعر العامة واللعب على أوتار معاناتهم، لتجد الطريق ممهدا أمامك إلى وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة، المرئية والإلكترونية (التي لا تخلو أيضا من الأقزام الذين تعملقوا من قبل)، ومن ثم تجد نفسك عملاقا زائفا من عمالقة هذا الزمان،

تعتلي المناصب، وتدلي بدلوك في أمور لا تفقه فيها شيئا، وتتجمل بزي العمالقة الذي تحيكه لك وسائل الإعلام، وإن ظللت تدرك حقيقة تقزمك في قرارة نفسك، أو لدي من يعرفونك عن قرب! ولكي يسود الأقزام، فلا بد من تقزيم العمالقة، وزحزحتهم إلى هامش الحياة، والطعن في إمكاناتهم، وتسفيه طموحاتهم.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

هكذا امتلأت حياتنا بأقزام متعملقين في شتى المجالات: في الفكر والأدب.. في الثقافة والإعلام.. في العلم والدين.. في الاقتصاد والسياسة.. في الفن والرياضة.. إلخ.

حال وطننا العربي

الأقزام في وطني العربي يتوالدون، يتكاثرون، يهللون لتوافه القضايا وسفاسف الأمور، ولأنهم أقزام تراهم على الملأ يتلاعنون، يتسربون كالجرذان من ثقوب الفساد، ويخططون لمزيد من برامج التخلف، ينقضون كالبعوض على أجساد ضحاياهم يمتصون دماءهم، فينشغل الناس عنهم بحك جلودهم، تراهم يتصدرون مسرح الأحداث،

يعلنون أنفسهم أبطالا لتلك الرواية الهزلية المفزعة التي لا تنتهي فصولها، تلك التي يشاهدها المهمشون من العمالقة فيصابون بالغثيان، ويغتربون في أوطانهم، ما لديهم من شيء إلا بقايا أقلام تم تقصيفها، وبقايا أوراق تم تدنيسها، وبقايا عقول تم اختزالها وتحييدها، أو يغتربون خارج أوطانهم، فتتلقفهم دول تعرف كيف تستثمر إبداعاتهم.

لا عجب إذن أن تتقزم بناءاتنا وبرامجنا في مواجهة الآخرين حضاريا، فهم بمعيار العلم والحرية عمالقة حقيقيون، ونحن بالمعيار ذاته أقزام متعملقون! ولا عجب أن تتقزم أحلامنا على المستويين الخاص والعام، فأقصى ما يحلم به المواطن البسيط في وطني العربي هو أن يشعر –ولو قليلا– بآدميته!

وأقصى ما تحلم به أمتنا هو أن تُنعم عليها الأمم الأخرى بمنجزات حضارتها! ولا عجب أن تصبح القزمية صفة منتخبة في مجتمعاتنا، فلقد ثلمت شفرة الانتخاب الطبيعي لتُشحذ شفرة الانتخاب الهزلي الاصطناعي على رقاب العمالقة!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

اقرأ أيضاً:

الإعلام حصان طروادة الحديث

بطل المشهد… كيف يُوجه الإعلام العقل الجمعي؟

الإعلام وأشباح الكهف ..ماذا يقدم لنا الإعلام ؟

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية

مقالات ذات صلة