فن وأدب - مقالاتمقالات

مسعى لإتمام ما نقص في “ألف ليلة وليلة”

لم تكتف منصورة عز الدين في روايتها “جبل الزمرد”، الصادرة عن دارالتنوير أخيرًا، باستعادة حكاية قديمة من الأسطورة الخالدة “ألف ليلة وليلة” ومدها على اتساع رواية كاملة، مثلما فعل البرازيلي باولو كويليو في “الخيميائي”، حين التقط صفحات قليلة من الليالي ونفخ فيها من قريحته، فصارت العمل الأدبي الأكثر توزيعًا في العالم بأسره.

كما أنها لم تستنسخ الليالي بلغة جديدة وبناء مختلف وهدف آخر، مثلما فعل نجيب محفوظ في روايته الساحرة “ليالي ألف ليلة”، لكن الكاتبة ذهبت في طريق شقته من قبل التركية أليف شافاق في “قواعد العشق الأربعين”، حين وازت بين حكايتين وقعتا في زمنين متباعدين ليصعدا دراميًا معًا، من التأسيس والانطلاق إلى صناعة الحبكة ثم الذهاب إلى حلها بطريقة جلية مبهرة، وكذلك اللبنانية هالة كوثراني في روايتها “كاريزما”، وإن كان موضوعها ولغتها ومراميها مختلفة تمامًا عن هاتين الروايتين.

في “جبل الزمرد” لا تتوازى الحكايتان اللتان تختلفان من حيث الزمن والشخصيات والسياقات، إنما تتداخلان وتتواشجان إلى حد كبير، فتتمم الجديدة منهما القديمة، وتفسر القديمة سريان الجديدة، وتؤسس كل منهما ذرائعيتها على الأخرى في صيغة من “الاعتماد المتبادل” مصنوعة بمهارة مناسبة، اتكاء على أن “الليالي” نص مفتوح يمكن الإضافة إليه أو التشاكل والتفاعل معه بطرق متعددة، لا سيما أن ما وصلنا إليه منه يتسم بهذه الخاصية، إذ يقال إنه نص شارك في كتابته على مدار قرون الفرس والشوام والمصريون، وأثّر كثيرًا في الإرث الإنساني، ليظل منهلًا يغرف منه الأدب في الشرق والغرب من دون تحسب ولا تهيب ولا حرج.

هنا تريد الكاتبة أن تتمم إحدى حكايات هذه الأسطورة الكبرى، وهي مسألة لم تتركها للاستنباط إنما وضعتها جهارًا نهارًا في صدر عملها عبر عنواني فرعي يقول “أو الحكاية الناقصة من كتاب الليالي”، ومن أجل هذا راحت تستعين بمراجع مهمة أوردتها في ثبت محدد مثل “مسالك الأبصار في ممالك الأمصار” لابن فضل الله العمري، و”خريدة العجائب وفريدة الغرائب” لابن الوردي، و”منطق الطير” لفريد الدين العطار، و”عجائب الهند” لبرزك بن شهريار، فضلًا عن “محاورة فايدروس” لأفلاطون، و”صيدلية أفلاطون” لجاك دريدا.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

يبدو أن الاعتماد على هذه الخلفيات المرجعية كان قويًا، إلى درجة أن الأسلوب يتفاوت نسبيًا بين ما يجري في الزمن الحديث على أيدي شخصيات تسعى للوصول إلى حقيقة ما جرى لأميرة “جبل الزمرد”، وذلك الذي تخيل مبدعو الليالي أنه قد وقع لها في الزمن القديم، وبين ما حدث لشخصيات وصلت بالفعل إلى هذا الجبل العجيب عبر مغامرات ومقامرات رهيبة، غارقة في المعاناة والأساطير والأماني المفرطة.

لغة الحوار والوصف والسرد عن الزمن الجديد تتخفف من حمولات الرؤى والصور القديمة وطرق التعبير عن المدركات، ثم تثقل بها حين يعود الحكي إلى زمن الليالي الأصلي، لكنها في الحالين لغة شاعرية وجزلة، وتصل إلى المعنى من أقرب طريق، متلافية أي زوائد أو إشباع للسرد، ومعبرة عن البناء المتناسق الذي شيدته الكاتبة، ولم يهتز منها إلا في مواضع بسيطة كانت تنجرف فيها وراء حكايات تفصيلية يمكن حذفها من دون أن تؤثر على مجرى الرواية، أو تقع أسيرة الالتزام ببعض خطوط الحكاية الأساسية المستمدة من الليالي، وهي مسألة لم تنكرها هي منذ البداية.

هناك عبارة وردت في الرواية تمثل مفتاحًا لقراءتها، أو تشرح الدافع الذي حدا بالكاتبة إلى إبداعها، إذ تقول: “لم تعرف شهرزاد أن خبر زمردة، كما وصلها وكما حكته لشهريار، لم يكن إلا تحريفًا مشؤومًا لقصة حياة أميرة واقعية عاشت ذات يوم فوق جبل قاف السحري، حياة تلاشت ولم تخلف وراءها سوى حكاية خضعت لتحريف مستمر، وتنتظر من يخلصها مما علق بها من آثار التشويه، ويحيي ما مات من أجزائها، أو أغرق في ضباب النسيان”. وهنا تصبح مهمة المؤلفة، عبر بطلتها الرئيسية، تنقية الحكاية مما شابها من تحريف وتحوير، دون أن تفقد حق الإضافة إليها، أو ملء الفراغات التي تركت فيها طيلة القرون الفائتة، وهذا لا يحدث بشكل أحادي، إنما عبر استحضار الشخصيات القديمة لتفعل ما لم تفعله، وتحقق ما رحلت دون أن تنجزه، وما تسبب في نقصان الحكاية أو بترها، واستدعى ضرورة البحث فيها أو السعى لإتمامها.

فالبطلة والراوية العليمة في آن: “بستان البحر” فتاة إيرانية ابنة آخر النساك الراحلين الحافظين لأسطورة “جبل الزمرد”، والمولودة على مقربة من “قلعة ألموت”، جاءت إلى القاهرة لتفتش عما نقص من الحكاية في المخطوطات القديمة، وتتصرف طيلة الوقت على أنها “منذورة لشيء غامض” وليس أمامها من سبيل سوى المضي قدما والتوحد بمصيرها، بغية استعادة زمردة “أميرة قاف” سيرة ومعنى.

وفي مصر، وبينما كانت أحداث ثورة يناير تجري في الشوارع، كانت “بستان” ماضية وراء هدفها، لتلتقي في رحلتها بفتاة مصرية ابنة أبوين منفصلين تدعى “هدير”، فيتساندا سويًا، ومعهما شاب إيراني آخر يدعى “كريم”، ويسعون جميعًا وراء هذه الغاية، فتقرأ الأولى تعاويذ على الثانية فتمكنها من السفر عبر الزمن: “بدأت في ترتيل تعاويذي وعيناي مثبتتان على الشابة الجالسة أمامي، ابتهلت بأقصى ما أملك من إيمان، مع آخر جملة قرأتها هدير، شعرت بأنها تطير، تطفو فوق العالم بتفاصيله التافهة، بمشكلاته الجادة، بأسئلته غير القابلة للإجابة، كانت خفيفة منسجمة مع نفسها، ومع الكون من حولها، شعور رائع بالصفاء والتناغم مع الذات هيمن عليها، أحست بأنها غير مرئية من الآخرين تعلو رويدًا، وكلما علت أكثر تخففت من أعبائها. غاب جزء من ذاكرتها، واستعارت في مقابله جزءًا بديلًا من ذاكرة الجبل وأميرته”.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

بهذه العودة إلى الماضي يمكن لبطلة الرواية أن تكمل الناقص، ليس عبر الإملاء على من كتبوا النص الأصلي، بل تمكين الشخصيات الأسطورية نفسها من أن تحدد مصيرها، وبهذا تمكنت الكاتبة نفسها من أن “تغلق الدائرة” التي ظلت مفتوحة على حكاية أميرة قاف ردحًا طويلًا من الزمن، لتبرهن بجلاء على أن فن الرواية قد يكون الوسيلة المثلى ليس فقط للإضافة إلى “ألف ليلة وليلة” أو استلهامها في حكايات شبيهة أو التناص معها أو توظيفها في شحذ الخيال وترسيخ معالم “الواقعية السحرية” في السرد العربي المعاصر، بل أيضًا في تجاوزها إلى حكايات جديدة، مستمدة من أساطيرنا الشفاهية المتداولة حاليًا، أو خلق عوالم موازية مبتدعة صنعها خيال خصب، وهي مسألة آن للأدباء العرب أن ينشغلوا بها أكثر في المستقبل.

مقالات ذات صلة:

رواية الحمار الذهبي

تحولات الجسد في رواية لحن الصباح

حكايات عن المهمشين

اضغط على الاعلان لو أعجبك

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

اضغط على الاعلان لو أعجبك

د. عمار علي حسن

روائي ومفكر مصري

مقالات ذات صلة