فن وأدب - مقالاتمقالات

المدن المسحورة .. وهمٌ جغرافي وتاريخٌ أسطوري – الجزء الثالث

المدينة المسحورة بالواحات الداخلة

تضع المخيلة الشعبية المدينة المسحورة “زرزورة” في منزلة بين منزلتين، منزلة المقدس حيث الجنة السماوية ذروة المقدس في أعلى تجلياته، كما هي معروفة في الموروث الديني، والجنة الأرضية/المفقودة التي ابتكرها اللا وعي الجمعي، ليعوّض الجماعة الشعبية نفسيًا عن مظاهر الفقر والجهل والمرض التي تحيط بهم في واقعهم المعيش.

والعقلية الشعبية وهي تحاكي الجنة السماوية تقوم بعملية استرداد مزدوجة، أولها: استرداد لحظات واقعية في تاريخها، ثانيها: استرداد للحظة البعيدة، لحظة طرد الإنسان من الجنة السماوية وخروجه إلى العالم العضوي.

البحث عن “زرزورة”

رحلة أحمد حسنين باشا

في كتابه “الواحات المفقودة” يذكر أنّ الرحلة الأولى كانت في نوفمبر 1920م وانتهت في أول أغسطس 1923م، ذهب حسنين باشا إلى الكفرة ثم إلى وادّاي ثم إلى واحة أركنو في إبريل 1923م.

ويشير الدكتور فارس خضر إلى شيء مهمٍ له علاقة بدراسة المعتقدات الشعبية ومدى تحكمها في دفة الأحداث والتاريخ، لتخلق ميثولوجيتها الخاصة مطلقة عنان الخيال لتجاوز ما هو قابلٌ للتصديق، فرغم أن حسنين باشا لم يمر بالواحات الداخلة في رحلته فإن العقلية الشعبية للجماعة تنسب إلى رحلته العلمية وقائع لم تحدث، كأن يروي الإخباريون أنه خلال مروره بالواحات توقف بقافلته ليلًا فوق أحد الغرود (التلال) الرملية العالية، فنظر ومن معه إلى السطح ليجد حدائق عامرة وآبارًا جارية وحيوانات مستأنسة تجوب المكان بحرية، فآثر ألا ينزل بهذه المنطقة ليلًا، وأن يبيت ليلته على مشارفها ليقصدها ومن معه في الصباح، وحين طلع الصبح لم يجد لما رآه أثرًا.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

يقول الدكتور فارس خضر: “ومع هذا لم يستطع حسنين باشا أن يتجاوز المرئي إلى “العجائبي” في مذكراته، ولم يفلح الوصف الأدبي للمخاطر والصعوبات التي حاقت برحلته في أن تنتشل المتلقي من الضجر، فإذا بالمخيلة الشعبية بما تنطوي عليه من طاقة إبداعية ومقدرة على تحطيم الحدود بين المدرك والمتخيل، تبني عالمها الفريد والعجيب فتشكل حكاية المدينة المفقودة “زرزورة” وفق تصوراتها الموروثة واستجابة لقانون التعجيب، الذي يقوم على إقصاء حالة الضجر لدى المتلقي، وذلك عن طريق إبهاره وإمتاعه ومن ثمّ استدراجه إلى نوع من المشاركة الوجدانية”.

من ذلك نخلص إلى أنّ المخيلة الشعبية تنحو إلى التعجيب متجاوزة الواقعي، عبر رحلة حسنين باشا التي وطئت قدماه مجتمعًا متريركيًا، وهو مجتمع بدائي تسود فيه النساء، كما لا يتم البيع والشراء عن طريق النقود بل بالمقايضة، وهي من عناصر المدن المسحورة، إذ كل شيء متاح دون كد أو نصب.

رحلة الأمير كمال الدين حسين

كانت هذه الرحلة 1926م منطلقة من واحة الخارجة، وهي الرحلة الأولى التي استخدمت فيها السيارات، ووصل الأمير إلى منطقة الجلف الكبير، وشُيِّد نصب تذكاري لتخليد رحلته هناك، كما اكتشف جبل العوينات ورسم خرائط دقيقة للمنطقة.

وهناك رحلة أكثر دقة في إثبات المواقع على الخريطة، هي رحلة الكونت لاديسلوس ألماشي الاستكشافية، إذ أثبت في خرائطه المنطقة الواقعة بالجلف الكبير باسم “واحة زرزورة”، وأعاد اكتشاف كهف “جارة” وقد روى في كتابه الواحة المفقودة حكايات عن هذه الواحة المتوهجة، لكي يضفي عليها وعلى رحلته ما يشبه الهالة الأسطورية.

“حكاية زرزورة “سبب التسمية

de56ea77 d56b 45f8 9087 00351c4b8844 - المدن المسحورة .. وهمٌ جغرافي وتاريخٌ أسطوري - الجزء الثالث

اضغط على الاعلان لو أعجبك

أدرك الكونت ألماشي ما تمثله المعتقدات الموروثة في الصحراء الغربية من سلطة وقوة، فعمل على توظيف هذه المعتقدات التي تجعل البحث عن الواحة المفقودة –زرزورة– الهدف المعلن لرحلاته العملية التجسسية، فقد انطلق يرسم خرائطه العلمية الدقيقة بدعوى حل لغز واحة زرزورة، إذ كان ضمن الجيش الألماني في إفريقيا واستغل معلوماته في الخطط العسكرية.

يورد الباحث في نهاية الفصل الثالث روايتين حول أصل تسمية هذه المدينة المسحورة “زرزورة”.

أولها: ما يذكره الكونت ألماشي في يومياته أنه شاهد عصفورًا صغيرًا بمجرد وصوله إلى هناك، وقد أطلق عليه البدو والمرافقون اسم “الزرزور”، وأورد حكاية تتردد بهذه المنطقة عن طائر في منقاره مفتاح المدينة المفقودة وما فيها من كنوز، وأنّ هذا الزرزور منحوت على بابها.

ثاني الروايات: إنّ هناك مزارعين كانوا على مشارف الصحراء، فإذا بزرزور يأتي من ناحية هذه الصحراء الشاسعة، فلما اصطادوا هذا الزرزور ذبحوه فوجدوا أمعاءه ممتلئةً بالحبوب، فخمّنوا أنّ وراء هذه الصحراء الممتدة لا بد أن تكون هناك واحة عامرة بالخيرات.

يتضح من الروايتين أنّ إحداهما أقرب إلى الخيال الذي وظفته لصالحها، في حين أن الأخرى تتماس مع الواقع مجسدة تصورات الجماعة الشعبية، كما أنّ التعبير الشعبي المتداول “زرزورة” لم يرد في مذكرات المغامرين المستكشفين قبل ألماشي.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

مقالات ذات صلة:

الجزء الأول من المقال

الجزء الثاني من المقال

الرواية والريف المصري الجديد

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د./ أحمد جاد الكريم

كاتب وروائي دكتوراة في النقد والأدب

مقالات ذات صلة