فن وأدب - مقالاتمقالات

المدنُ المسحورةُ.. وهمٌ جغرافي وتاريخٌ أسطوري – الجزء الثاني

يوضح الباحث الدكتور فارس خضر في الفصل الثاني من كتاب المدن المسحورة العلائق بين المدينة العجائبية –كما ترسمها المخيلة الشعبية في مروياتها الشفاهية– وصورة الجنة وصفاتها كما وردتْ في الكتب المقدسة، وهذه العناصر المتكررة فيما تقدمه المدونات عن مدن خفيَّة أو مُطلسمة، نجد رواسب لها بادية في النهايات السعيدة للحكايات الشعبية بالواحات الداخلة.

فهل تشبه المدينةُ المسحورةُ (الأرضية المتخيلة) الجنةَ السماويةَ (المقدسة الغيبية) أم أنَّ هناك اختلافًا بينهما يعود إلى طبيعة الجماعة الشعبية وقدرة مُخيلتها على خلق ما يتلاءم مع طبيعة أفرادها، واقعهم وأحلامهم وأمانيهم وسعيهم لتحقيقها؟

هذا ما حاول الباحث الإجابة عنه:

مدينة تَسْترها الجان عن العيون

تظهر المدينة التي تسترها الجان عن العيون بعدة صور، فتارة تظهر بصورة مفاجئة في الصحراء ليلًا، وتارة يدلف التائه في الصحراء إليها عبر بئر مهجورة وناضبة، وتارة تنفتح “الجور” المرصودة عن مدخل يمر منه الداخل ثم ينغلق دونه، أو يظهر القصر الذهبي بصفته مقدمة لهذه المدينة المخفيَّة.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لهذه البئر قصة ترويها المدوَّنة الشعبية، ففي داخلها باب قديم متهالك، تجاهل الراوي الثعبان النائم إلى جواره، ودفعه بأطراف أصابعه فانفتح عن “زَرْزُورَة” الجنة الأرضية المهملة، فجريد النخل متروك لم يجزّه أحد، والحيوانات سائبة ترعى في المراعي الخصبة على حريتها، والمياه فائضة عن حدود الآبار، والجان في مدينة زرزورة يصوَّرون حرَّاسًا لهذه الجنة الأرضية المهجورة، وهذا ما يبرر وجود الثعبان/الحارس/الجان على بابها.

كما أنَّ اتّخاذ الجان هيئة الأفاعي في الآبار معتقد يتسق مع البيئة الطبيعية في المناطق الصحراوية، إذ تلجأ الأفاعي إلى موطن الماء والدفء، كما أنَّ للأفعى تصورًا شعبيًا آخر، يذكره الثعلبي في عرائس المجالس “إن إبليس طلب من الحيَّة أن تُدخله الجنة، وتَحوَّل ريحًا ودخل فَمَها فجعلته بين أنيابها، ومرَّت على الخَزَنة وهم لا يعلمون فأدخلته الجنة”.

وهكذا فإنَّ تلك الأفعى التي أخرجت آدم وزوجه من الجنة السماوية –كما في الموروث الديني الشعبي– تقف حارسة على بوابة الدخول أو العودة إلى الجنة الأرضية المتخيلة.

الباب القديم المتهالك المهمل الموجود على مدخل المدينة المسحورة –الذي يقوم بدور التمويه– له دلالة تاريخية، فالأبواب حدود فاصلة بين المُقدس والمُدنس، مثل أبواب المعابد والكنائس والمساجد، فالباب في هذه المدينة المسحورة يفصل بين زمنين: زمن تاريخي واقعي يتجاوزه التائه ليعبر إلى زمن آخر الزمن الميثولوجي.

تأتي هذه الجنة الأرضية ثوابًا لهؤلاء الأشخاص الذين يعانون شظف العيش، مكافأة لهم على صبرهم، كما ترى الجماعة الشعبية.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

المياه المقدسة ومحاكاة النموذج السماوي

تُمثِّل المياه للواحات عنصرًا مهمًا، كونها مجتمعًا زراعيًا يقوم على مياه الآبار الجوفية الوفيرة، وإن كان قد اعتُمِد في السنوات الأخيرة على ماكينات سحب المياه من الأعماق، ولهذا تنزع العقلية الشعبية حين ترسم ملامح هذه المدينة المسحورة “زرزورة” إلى ذكر عيون الماء الجارية الكثيرة الفيّاضة، وثمة عَلاقة شرطية قائمة بين تفجُّر هذه الآبار والإيمان بالخالق، ما يدعم لدى الجماعة التصور بوجود خطيئة ما حال توقف التدفق الذاتي لمياه الآبار، كما حدث في الواحات في الثلاثين سنة الأخيرة.

كما أن عالم الصحراء في تصور العربي عبارة عن منفى له، تلقفه بعد الخروج من الجنة السماوية، تبع ذلك الخروج/الطرد/النفي حنين إلى تلك الجنة، خلق ذلك الحنين توقًا دائمًا إلى الزمن الميثولوجي، فجاءت المدينة المسحورة/الجنة الأرضية عوضًا عن ذلك الزمن.

يصل الباحث إلى نتيجة مهمة في هذا الفصل، مفادها أنَّ العقلية الشعبية لا تستجيب لما يصدِّره الخطاب الديني بشأن الجنة السماوية من تفاصيل مفارقة للواقع، كأن تُوصف هذه الجنة بأنَّ فيها “شجر يسير الراكب في ظله مئة سنة وهي شجرة الخُلد، وثمة أشجار تنبت الحُلل، نخل الجنة ثمرها كالغلال، كلما نزعت ثمرة أعادته مكانها أخرى، وفاكهة متنوعة كثيرة نضيجة، عنب كأعظم دلو، وثمر كأنه الرمان تنفلق عن سبعين حُلة، ألوانًا بعد ألوان ثم تنطبق فترجع كما كانت”.

بذلك لا تُسْرف المُخيلة الشعبية في وصف جنتها الأرضية، فهي تبتكر جنة مماثلة لما تحياه على الأرض، ولا تُفْرط في مكوناتها لتكون أكثر قربًا للواقع ولتصديق الجماعة الشعبية، فيُهمَل ذكر الأنهار في مدينة زرزورة على الرغم من كثرتها وتنوعها في جنة السماء، لأن الواحات بعيدة مئات الكيلومترات عن نهر النيل، فعدم ذكرها يتماشى مع الحقيقة الجغرافية.

المدينة الذهبية جزء من الحيز المقدس

كل مقدس في السماء له معادل رمزي على الأرض يماثله ويتوحد معه، وهذا يكشف عن الرغبات الإنسانية في العودة إلى الزمن القدسي الأول، وفي المعتقد الشعبي تبدو المدينة الذهبية المملوءة بالذهب ذلك المعدن المقدس لدى المصري القديم، مماثلة –وفق نورثروب فراي– للمدينة السماوية المفعمة بالنجوم والكواكب والشمس والقمر، فالمدينة الذهبية –كما يرى فارس خضر– نتاج التشظي أو الانشطار الرمزي للمقدس، فهناك جنة سماوية تقابلها جنة أرضية، ونيل سماوي وآخر أرضي، كعبة سماوية (البيت المعمور – الضُراح) وأخرى تحاكيها على الأرض، كل أرضي يمتُّ بكبير صلة للسماوي، ليميط اللثام عن حنين الفاني وتوقه للخالد الباقي.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

تُسرف المخيلة الشعبية في رسم ملامح جنتها الأرضية المفقودة وما بها من قناطير مقنطرة من الذهب والفضة، ومن هنا فمدينة “زرزورة” تمتلئ بالذهب كحالة من العوِض عما تُلاقيه في بيئاتها المحرومة من ندرة في الأموال والثروات، لكن كما ذُكر من قبل تظل بصفات وملامح واقعية قابلة للتصديق.

تظهر مدينة زرزورة ذهبية مضاءة ليلًا لكنها تختفي صباحًا، وهذا الاختفاء المفاجئ يتسق والتصور الشائع كما في مدينة إرم أنها مدن طوَّافة لا تستقر في مكان وَمَن رآها ولم يدخلها حينها فلن يراها مرةً ثانيةً، وستكون بعد قليل في مكانٍ آخر.

يقول الباحث إنَّ المدينة الذهبية “زرزورة” نتاج للتجليات المشتركة التي عرفتها الجماعات البشرية البائدة، سواء كانت إرم أم أوفير التوراتية، ويشير إلى الدلالة الرمزية المتصلة بالكنوز، التي تجيء وفق ثلاثة تفسيرات:

  • التفسير الضدي: بحيث يدل الكنز على الهم والنكد والحزن، وقد يدل على موت الرائي، ويدل أيضًا على الحظ السيئ والخسائر، أو يرمز إلى شدةٍ تصيب الفرد.
  • التفسير المباشر: لدلالة الكنز على مال بكثرة أو علم لعالم ورزق لتاجر وبلوغ الثروات.
  • التفسير النوعي (الثنائي): فالذهب المُذكَّر يأتي سابقًا ومقترنًا بذكر الفضة المؤنثة، سواء في المرويات الشفاهية أم في المدونات، وتدل على حمل المرأة، فالذهب غلمان والفضة جَوارٍ، إذ كانت الكنوز مدفونة في باطن الأرض (الأم كما في المعتقد الشعبي).

الذهب يكون مكافأةً للأتقياء الأنقياء الذين يضلون طريقهم في الصحراء، فيقعون على هذه المدن الملآى بالخيرات، التي يأتي هذا المعدن في مقدمتها.

خطيئتان للخروج.. إفشاء السر والاكتناز

الطيبون يحصلون على جزائهم في هذه الجنة الأرضية، وكذلك الأشرار ينالهم العقاب، لكن الخروج من الجنة مرهون بأمرين:

اضغط على الاعلان لو أعجبك
  • إفشاء السر: إذ إن أبطالها حينما خرجوا منها ارتكبوا خطيئة إفشاء السر، حتى وإن تحجَّجوا بأنهم سيجلبون معهم أهلهم لهذا عوقبوا باختفائها.
  • خطيئة الاكتناز: فالكل يأخذ بقدر حاجته فقط ومن يطمع في مزيد يكن حظه الطرد، وهذا يستدعي فورًا خروج آدم من الجنة السماوية، لأنه أكل من الشجرة المحرمة، فهي صورة نابعة من الموروث الديني للحياة الأبدية في الجنة، ومن ثم يتوجب خروج مرتكب الخطيئة من هذه المدينة.

يضعنا الباحث أمام أمرٍ مهمٍ، وهو تواضع المخيلة الشعبية في وصف الجنة الأرضية في مقابل الوصف السحري للجنة السماوية، فالأولى أقل اعتناءً بالتفاصيل من الثانية، تكتفي بالأوصاف الجمالية للقصور وما بها من خيرات، وذلك له تفسير منطقي ينطوي على ابتعاد المخيلة الشعبية –لأهل الواحات– بقدر الإمكان عما يجافي الواقع المعيش، والتعبير عن أشواقها وأحلامها القابلة للتحقق، فحدود التخيل لديها تقف عند كثرة عيون الماء ولا شيء أكثر من ذلك.

فالدين بخطابه الميثولوجي تأثيره ضئيل على الجماعة الشعبية التي ابتكرت جنتها الأرضية بمعطيات حِسِّيَّة ملموسة، مبتعدة عن الطابع التجريدي للمقدس.

وقد أنبتَ الامتزاج بين الموروث الديني والمتخيل –الذي أكسبته الرغبات الدفينة للجماعة الشعبية رسوخًا عبر الزمن– حكايات كثيرة عن المدينة المسحورة “زرزورة”، وهذا ما سيُعرض في الحلقة القادمة.

مقالات ذات صلة:

الجزء الأول من المقال

رواية فاوست

رواية “أول النهار”.. مراوحة بين صدمة الواقع وسحر الخيال

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د./ أحمد جاد الكريم

كاتب وروائي دكتوراة في النقد والأدب

مقالات ذات صلة