مقالات

ما هو عصر التنوير ؟ الفرق بين التنوير الحداثي والتنوير الصوفي

“التنوير” أو “الأنوار” تلك الكلمة التي تداولتها الألسنة والأقلام بشكل واسع في الفترة الأخيرة، حتى باتت بلا مفهوم محدد الملامح والخطوط التي يمكن الفصل بينها وبين مفاهيم أخرى مشابهة كـ “النهضة/ الإصلاح/ التجديد”. وذلك لأن التنوير حركة واسعة المدى بدأت بمفهومها الحداثي في الغرب إبّان القرن الثامن عشر، وثانيا أنها لم تكن حركة تُنسب إلى شخص واحد، حتى إنك لا تستطيع أن تمسك بخيط لتفصل به بين التنوير وغيره من المصطلحات المشابهة، ثم إنك تجد أن هناك في التنوير الحداثي تنوير حاد وآخر هادئ وثالث أكثر هدوءًا، كل ذلك جعل من التورط الحديث عن تحديد مفهوم التنوير دون اصطحاب المرونة في المقاربة لتحديد هذا المفهوم.

تاريخ التنوير الحداثي

لقد بدأ التنوير الحداثي كمصطلح ينتمي للعقلانية والنقد مع فجر عصر النهضة في الجغرافيا الأوربية كرد فعل على ما تفعله الكنيسة كسلطة. اتخذ عصر التنوير العقلَ شعارا له، فكان من ضمن المقولات التي كانت تُردد في تلك الحقبة: “إن أنوار العقل وحدها هي القادرة على قيادة الإنسان إلى كمال العلم والحكمة”.

وبالتالي فهو مصطلح يقترب من دائرة الدين أكثر من أية دوائر أخرى كالسياسة والاجتماع والفن. بدأت النهضة بالقرن الخامس عشر، وتبعها الإصلاح الديني في القرن السادس عشر، ثم ساد العقل في القرن السابع عشر، ثم جاء عصر التنوير في القرن الثامن عشر.

حتى اندلاع الثورة الفرنسية عام 1789م فتخلصت من النظام السياسي القديم، فلحق التنوير بالدوائر الأخرى كالسياسة والفن والثقافة، وأصبح التنوير ينفعل في المجال العام بصورة تشبه مجرى الدم في الجسم.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وفي العادة ما يتم التحديد التاريخي لعصر التنوير الأوربي بوضعه ما بين عصر فيلسوفين، ليبنتز [1646م-1716م] وكانط [1724م-1804م]، ولكنه مع ذلك لا يمكن -كما قلنا- تحديد عصر التنوير بفترة زمنية فاصلة نفصل بها فصلا حادا بينه وبين غيره، نظرا لمراعاة الزخم الذي سبق عصر التنوير وأيضا الزخم الذي حمله عصر التنوير للفترة التي تليه.

مفهوم التنوير الحداثي

هذا عن تاريخ التنوير الحداثي، أما عن مفهومه، فيبدو أن تعريف “كانط” للتنوير قد حظي عند الأوساط المختلفة بشيء من القبول، وهو التعريف القائل بأن التنوير هو: “مقدرة المرء على استعمال عقله، وطرح جميع أنواع الوصايات التي ورط نفسه فيها مع مرور الزمن لا سيما الوصاية الدينية، دون أن يدفعه كل ذلك إلى التعصب ونبذ الآخر”.

لكن يبدو أن هذا التعريف يصف التنوير من حيثية فردية، لا من حيث هو ظاهرة فكرية برزت في المجتمع وأفرزت نموذجا جديدا في تشكيل المجال العام.

لكننا -بشكل أوضح- يمكن أن نبني تصورا أكثر دقة عن مفهوم التنوير من خلال تحديد المبادئ والأسس التي يقوم عليها والتي يمكن إجمالها في الآتي:

  • الإيمان بقدرة الإنسان بشكل عام.
  • الإشادة بالعقل بشكل خاص.
  • وضع الدين في إطار النقد الذي يعطي في النهاية صورة على مواءمة مستجدات العلم ومكتشفاته.
  • غلبة النظرة التجريبية الحسية على النظرة الميتافيزيقية المتعالية.
  • هدم أية سلطة فوق سلطة العقل وحده.
  • استبدال الدين الفلسفي بالدين الرسمي.
  • النزعة الإنسانية.

التنوير بمفهمومه الصوفي

هذا عن التنوير بمفهومه الحداثي، أما عن التنوير بمفهومه الصوفي فقد عرف التراث الإسلامي مصطلح “التنوير” قبل ظهوره في البيئة الأوربية بزمن طويل، فقد كتب ابن عطاء الله السكندري [1206م- 1309م] كتابا أسماه “التنوير في إسقاط التدبير”، وكتب السيوطي [1445م- 1505م] “تنوير الحوالك لشرح موطأ مالك”، الأول كتابٌ في التصوف والثاني كتابٌ في الفقه.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لكن لمفهوم التنوير في التراث الإسلامي معنى مغايرا لمفهوم التنوير الحداثي، فإذا كان التنوير بمفهومه الحداثي يشير إلى نور “العقل”، فإن التنوير الصوفي يشير إلى نور “القلب”. ولابن عطاء الله حكمة تقول “تسبق أنوار الحكماء أقوالهم، فحيثما صار التنوير وصل التعبير”. يقول ابن عجيبة في “إيقاظ الهمم على شرح الحكم” أن التنوير مأخوذ من النور، و”النور: هو اليقين الذي يحصل في القلب ويثمر حلاوة العمل”، ويعرف أهل التنوير بأنهم: “هم أهل الحكمة، هم العارفون بالله”.

وما أكثر استعمال الصوفية لمصطلح “النور” و”الأنوار”، ويعنون بالنور النور المجازي ويقصد به التجليات الإلهية التي تشرق على قلب العارف. ومن ثم فالتنوير الصوفي يبدأ من الداخل، أي الوعي الذاتي، بينما التنوير الحداثي يبدأ بالوعي بالعالم، محاولة التغيير في الواقع الخارجي.

وبغض النظر عن العلاقة بين التصوف الإسلامي والفكر الشرقي، فإننا نجد أيضا استعمال الفكر الشرقي لمصطلح التنوير بمفهوم مقارب للاستعمال الصوفي. يقول “أوشو” في كتاب بعنوان “ألف باء التنوير”: “التنوير بكل بساطة هو كيف تصبح واعيا لما تراكم على شخصيتك من طبقات. والأهم هو كيف تتخلص من هذه الطبقات المتراكمة. إن شخصيتك بهذا الشكل ليست أنت ولا الوجه وجهك، بسب تلك الوجوه المزيفة.. والتنوير ليس أكثر من اكتشاف جوهرك الحقيقي”.

فلسفة التنوير الصوفي

وإذا عدنا لمفهوم التنوير الصوفي، فسوف نجد أن الوصول إلى هذه الاستنارة يكون بتخليص النفس من الأخلاق الوضيعة واستبدالها بالأخلاق الرفيعة، والطريق إلى ذلك يكون ببلوغ المقامات السبعة: التوبة والورع والزهد والفقر والصبر والتوكل والرضا، وهي مقامات ترتقي بها النفس الإنسانية، وللصوفية في النفس مصطلحات مرتبة على هذه المقامات السبعة: النفس الأمارة، ثم اللوامة، ثم النفس الملهَمة، ثم النفس الراضية، ثم المرضية، ثم النفس الكاملة التي بها “الإنسان الكامل”.

وتقوم فلسفة التنوير الصوفي على مبدأ أن النفس كالمرآة، عندما تتخلص النفس من الصفات الذميمة وتتحلى بالأخلاق الحسنة عندها تشرق عليها الأنوار. فمتى انجلت مرآة النفس وانزاح عنها غينها أصبحت على استعداد لتلقي المعارف الإلهية التي تنعكس على النفس من النور الأعلى، فتنطبع على نفس الصورة من هذا النور، فتستفيد استفادةَ المرآة من الشمس متى كانت مجلوة، فتصبح مستنيرة بالأنوار الإلهية والإشراقات الربانية.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

الفرق بين التنوير الحداثي والتنوير الصوفي

فالفرق بين التنوير الحداثي والتنوير الصوفي -كما هو واضح- أن التنوير الحداثي يقوم على مبدأ استقلالية العقل وقدرته وحده على بلوغ مسيرة الحياة، أما التنوير الصوفي يقوم على الذوق والمشاهدات القلبية. التنوير الصوفي موضوعه “الذات”، والتنوير الحداثي موضوعه “العالَم”.

الوجود الحقيقي في التنوير الحداثي هو الوجود الظاهري، والوجود الحقيقي في التنوير الصوفي هو الوجود الباطني، وبينما التنوير الحداثي يقوم كحركة اجتماعية تسعى لتغيير المجال العام، فإن التنوير الصوفي تجربة ذاتية وشعور فردي تسعى لتغيير الفرد نفسه، لأن “الإنسان عالم أصغر، والعالم إنسان أكبر” كما يقول محيي الدين ابن عربي.

والسؤال هو: هل يمكن الجمع بين هذين النوعين من التنوير الحداثي والصوفي؟ أم أن هذا الجمع يبقى متعذرا وتبقى القسمة بين ثنائية العقل والقلب كما هي؟

اقرأ أيضاً:

طغيان المادية وسقوط التنوير الحضاري

الحب في عصر ما بعد الحداثة

اضغط على الاعلان لو أعجبك

 التصوف الحقيقي

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

هاني عبد الفتاح

كاتب وباحث دكتوراه بكلية الآداب قسم الفلسفة جامعة الفيوم

مقالات ذات صلة