مقالات

النوبة البيضاء

هل أنت من المغرمين بشرب الشاي؟ إذا كنت كذلك، فستعلم بالتأكيد ما قيمة أن يضاف إلى كوب الشاي الخاص بك قليل من أوراق النعناع أو أعواد القرنفل، ليضفي عليه مذاقًا مميزًا ونكهة خاصة، هذا تقريبًا ما تفعله الحضارة النوبية في مصر عمومًا وفي أسوان خصوصًا، إنها تذوب بفنها وثقافتها في أعماق أعماق مصر لتضفي عليها سحرًا فريدًا ورونقًا خاصًا.

صفات أهل النوبة

ما إن تطأ قدمك أرض أسوان ويلقاك ذلك الشاب النوبي بضحكته البيضاء اللامعة، ويحييك ذلك الشيخ النوبي بلحيته البيضاء النقية، وتعاملك تلك السيدة النوبية بقلبها الأبيض الصافي، ويداعبك ذلك الصبي بجلبابه الأبيض الناصع، حتى تدرك أن ما كنت تظنها نوبة سمراء ليست كذلك، بل نوبة بيضاء ناصعة البياض، يزداد يقينك في ذلك عندما تعلم أن ملوك النوبة قد لبسوا التاج الأبيض، واتخذوا صقر حورس الشهير رمزًا لهم قبل زمن طويل من ملوك الفراعنة في مصر العليا.

سحر الطبيعة في بلاد النوبة

إذا ما كنت في أسوان وشعرت يومًا بالضيق، فكل ما عليك فعله أن تركب البحر (النيل بلغة أهل الجنوب) متوجهًا تلقاء الضفة الغربية له، إذ ترسم القرى النوبية بمكانها العذري وجمالها الهندسي وألوانها الزاهية لوحة فنية بالغة الروعة والإتقان، فالبيت النوبي على بساطته آية في الجمال وغاية في الرقة، وهنا تكمن عبقرية النوبي الأول، فغالبًا ما يتكون ذلك البيت من طابق واحد له فناء واسع، يمتاز سقفه بالقباب المتعددة وشرفاته بالمثلثات المتداخلة، أما جدرانه فتزينها عادة رسومات ذات طبيعة نوبية خاصة من حيث الشكل واللون، أما عن نظافة المكان وكرم الضيافة فحدث ولا حرج.

مع النوبة وعندها تجد الطبيعة في أروع صورها، هناك تجد النيل بهدوئه واتساعه والجزر بنباتاتها وطيورها، والمراكب الشراعية بحسنها واتساقها، وهناك تجد العطارة بأنواعها، والأقمشة بأشكالها، ومشغولات الخرز والخزف وسعف النخيل، ومثل أي حضارة عريقة تضفي النوبة نوبيتها على كل منحى من مناحي الحياة فيها، حتى إنك لتشعر أن الهواء الذي تتنفسه نوبي والماء الذي تشربه نوبي، فللنوبيين سماتهم الخاصة التي يصبغون بها كل شيء، تجد ذلك واضحًا في عاداتهم وتقاليدهم، في مأكلهم ومشربهم، في زينتهم وملبسهم، في أفراحهم وأحزانهم، وما أروع النوبة حين تغني فهي تجبرك بموسيقاها المميزة وإيقاعاتها الفريدة أن تتمايل طربًا وإن لم تكن مستوعبًا لكثير من معاني كلماتها.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

تاريخ بلاد النوبة

x2 1024x614 - النوبة البيضاءتشغل النوبة المنطقة الواقعة جنوب مصر على طول نهر النيل حتى شمال السودان، ويعود أصل النوبة وأهلها إلى كوش الابن الأكبر لحام بن نوح، وهو أخو مصرايم بن نوح أبو المصريين، وأخو كنعان بن نوح، وتنسب إليه مملكة كوش والتي اتخذت هذا الاسم إبان تتويج ألارا النوبي أول ملوك الأسرة الخامسة والعشرين النوبية الذي غزا مصر وضمها.

الحضارة النوبية أقدم من الحضارة المصرية بكثير، إذ يقول المؤرخون إن انتقال الخبرات النوبية إلى مصر ساعد على استقرار المجتمعات البشرية في شمال الوادي وتطورها، مما كان له الفضل في قيام الممالك المصرية القديمة لاحقًا، وقد تميز النوبيون عبر التاريخ بمهارتهم في الرماية، حتى إن المصريين القدماء كانوا يطلقون على بلاد النوبة آنذاك “تا سيتي” أي أرض الأقواس، وأطلق المسلمون على أهلها “رماة الحدق”، وذلك لأنه لما فُتحت مصر بعث عمرو بن العاص عقبةَ بن نافع الفهري إلى بلاد النوبة، ليدعو أهلها إلى الإسلام، فلقي من أهلها قتالًا شديدًا، ورمى أهل النوبة المسلمين بالنَّبْل، فكثر من أصيب منهم يومئذ في عينه، وقد رُوي أن المسلمين لم يروا قومًا أشد في الحرب من أهل النوبة، ولا أمهر منهم في الرمي. قال أحد المقاتلين في حصار النوبة في زمن عمر بن الخطاب: “لقد رأيت أحدهم يقول للمسلم أين تحب أن أضع سهمي منك؟ فربما عبث الفتى منا (أي من المسلمين) فقال في مكان كذا، فلا يخطئه النوبي”.

قبائل النوبة في مصر

يتكون المجتمع النوبي من ثلاث قبائل كبرى رئيسية: العرب، والكنوز والفادتجدا، يقطن العرب وسط منطقة النوبة ويتحدثون بالعربية، أما الفادتجدا فهم يتحدثون النوبية القديمة ويقطنون المنطقة الجنوبية، ولهم لهجة خاصة بهم تسمى “الفديجة” تنطق ولا تكتب، وهناك قبيلة “الكنوز” وأهلها يقطنون المنطقة الشمالية ويتحدثون باللهجة الكنزية.

كانت بداية هجرة أول نوبي مع بناء خزان أسوان عام ١٩٠٢م، والذي ارتفع معه منسوب المياه خلف الخزان ليغرق عشر قرى نوبية، هاجروا طواعية ودون طلب من أحد، فانتقلوا إلى قرى في البر الغربي وإلى مختلف محافظات مصر، وبعد ذلك حدثت التعلية الأولى للخزان عام ١٩١٢م، وارتفع معها منسوب المياه ليغرق ثماني قرى أخرى، وبعد ذلك جاءت التعلية الثانية للخزان عام ١٩٣٣م وأغرقت معها عشر قرى أخرى، وفي الخمسينيات بدأت الدراسات لبناء السد العالي، ورُحِّل أهالي النوبة خلف السد عام ١٩٦٣م في هضبة كوم أمبو.

مقالات ذات صلة:

اضغط على الاعلان لو أعجبك

 الهوية الثقافية في مرآة عمارة الفقراء عند حسن فتحي

فن النحت في مصر والصين

مثلث حلايب وشلاتين

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. عمرو أبو الحسن المنشد

مدرس أمراض الصدر كلية الطب – جامعة أسوان

مقالات ذات صلة