مقالات

النظريات الفلسفية في ماهية اللون

الجزء الثاني: النزعة الاستبعادية (Eliminativism)

النزعة الاستبعادية هي تلك التي تبناها كل من جاليليو (Galileo)، وعالم بيولوجيا الأعصاب الإنجليزي سمير زيكي (Samir Zeki)، والبيولوجيان الألمانيان فيرنر باكهاوس (Werner Backhaus)، وراندولف منزل (Randolf Menzel)، وعالم النفس الأمريكي ستيفن بالمر (Stephen Palmer)، وذهبوا بمقتضاها إلى النفي العلمي لواقعية الألوان في العالم الخارجي.

إنها الرؤية العلمية – الفلسفية القائلة بأن الموضوعات الفيزيائية ليست ملونة بالفعل مثلما تتبدى لأعيننا. فإذا ما تساءلنا إذًا عن ماهية اللون بعد نفي كونه سمة فيزيائية، جاءت الإجابة على وجهين، فإما أن يؤكد الاستبعادي أنه ليست هناك ألوان على الإطلاق، وأن ما نراه من مظاهر لونية لا تعدو أن تكون مجرد “أوهام” أو “كيفيات” توجد بالقوة (Virtual) وليس بالفعل، تمامًا مثل الفلوجستون (Phlogiston) والسيال الحراري (Caloric)، وهذه هي نظرية الوهم بالألوان (The Illusion Theory of Colors)، وإما أن يقول: هناك ألوان، لكن لا علاقة لها –من المنظور الأنطولوجي– بالخارج المحسوس، إنما الألوان محض خواص أو كيفيات عقلية للخبرات البصرية ذاتها: الإحساسات، الحالات العصبية، أو المعطيات الحسية. وتلك هي النزعة الذاتية (Subjectivism)، أو ما تُعرف بنظرية الألوان العقلية (Theory of Mental Colors).

نظرية الوهم بالألوان

يذهب القائلون بنظرية الوهم إلى أننا –كوننا كائنات تتمتع بملكة الإدراك الحسي البصري– لدينا خبرات باللون، أعني خبرات تمثل الموضوعات كما لو كانت لها ألوان، في حين أنها ليست كذلك بالفعل، ومن ثم يمكن أن نخلع على الألوان سمة الخواص الممكنة فقط: إنها خواص لا تنتمي إلى الموضوعات في عالمنا الفعلي، لكن قد تنتمي لها في عالم آخر ممكن، عالم مفارق يتجاوز عالمنا المغلف بالوهم البصري!

في مواجهة السؤال عن مغزى التصور الطبيعي للون، وعوامل قيامه وتطوره على خلفية الإحساس الوهمي بالمظاهر اللونية، يُعوّل أصحاب نظرية الوهم على الطريقة التي تعمل بها تصورات اللون لكي تنجز وظائفها وأدوارها المتنوعة، فهذه الأخيرة لا تستلزم كون الموضوعات ملونة بالفعل، بل يكفي أن تظهر لأعيننا كما لو كانت لها ألوان! وتفصيل ذلك أن ثمة وظيفتين أساسيتين لتصورات اللون، الأولى تعكس غرضًا إبستمولوجيًا يتمثل في كون الألوان علامات تستخدم للدلالة على وجود الموضوعات، وهذه العلامات إما طبيعية أو اتفاقية. فإذا ما دققنا النظر في هذه الوظيفة وجدنا أن إنجازها يعتمد فقط على المظهر، أعني ظاهر الشيء كما يتبدى لنا، حتى ولو كان وهمًا. أما الوظيفة الثانية لتصورات اللون فتعكس غرضًا جماليًا –مفهومًا بالمعنى الواسع– وهو ما يتجلى مثلًا في فن الرسم، هندسة الديكور، الملابس، المسرح، التجميل، الإعلانات، المعارض، الجاذبية الجنسية، إلخ. ومرة أخرى، لا شيء يستلزم كون الألوان حقيقية لكي تنجز تلك الوظيفة، كل ما نحتاجه أن تبدو لنا الموضوعات كما لو كانت تمتلك ألوانًا تميزها.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لا يختلف الحال كثيرًا بالنسبة إلى توظيف الحدود اللونية فيما يتعلق بالحقائق والمبادئ السببية، فعلى سبيل المثال، نحن نستطيع أن نفسر كيف أن نضج الكمثرى (والموز، إلخ) منعكسٌ بتحول الثمار من اللون الأخضر إلى اللون الأصفر، ذلك أننا نستدل بالمظهر اللوني –الذي يتبدى لنا وفقًا لشروط صحيحة– على أن بين نضج الثمار وحدوث عمليات فيزيائية وكيميائية سابقة علاقة سببية. ومهما كانت الحقائق السببية التي لدينا بخصوص اللون، فمن الممكن تفسيرها بالنظر إلى الألوان كونها علامات أو دلائل على سمات فيزيائية أخرى، إذ تعمل تلك السمات أسبابًا لحالات تتجلى لنا في الواقع الفيزيائي من المظهر اللوني. ولعل هذا ما يُفسر نظرة العلم إلى الألوان أنها كيفيات ثانوية يخلعها الوهم البصري على الأشياء.

نظرية الألوان العقلية (الكواليا)

4 classifications learn about color circle classifications connotations - النظريات الفلسفية في ماهية اللون

أما نظرية الألوان العقلية فيذهب القائلون بها إلى أن الألوان التي ننسبها إلى الموضوعات الفيزيائية –وفقًا لخبراتنا البصرية– ما هي إلا خواص كيفية عقلية للخبرات اللونية، أعني للحالات الإدراكية البصرية ذاتها. ولا نجد رأيًا موحدًا يتفق عليه الذاتيون حول كيفية وصف الألوان العقلية، إنما نجد بالأحرى فريقين متنازعين في هذا الصدد: أولئك الذين يعمدون إلى وصفها بواسطة العلاقات السببية لحوادث الجهاز العصبي والمخ، أي بواسطة العمليات المقررة وظيفيًا –من العلم– للجهاز البصري بوصفه جهازًا فيزيائيًا في المحل الأول، وأولئك الذين يزعمون أن الألوان العقلية هي ما يتمثل عقليًا لمدركٍ ما بحيث يكون واعيًا باللون. أي أن الألوان تؤخذ هنا سماتٍ للإحساسات البصرية التي يتمثلها العقل باعتباره كيانًا مجردًا له طبيعته الخاصة المميزة عن الطبيعة الفيزيائية للمخ. وما دام “الوعي” وعيًا عقليًا، فمن غير الممكن إذًا وصف الألوان بالإحالة إلى العلاقات السببية لحوادث الجسد، ولذا ينحت أعضاء الفريق الثاني مصطلح “الكواليا” (Qualia) اسمًا أكثر ملائمة للألوان العقلية (وهو ما تناولناه في مقالٍ سابق).

يُقدّم الذاتيون (بفريقيهما) نوعين من الحجج لدعم موقفهم القائل بالأساس العقلي للألوان: النوع الأول يشدّد على الاعتبارات الإبستمولوجية والفينومينولوجية، أما النوع الثاني فمؤسس على النتائج التي انتهى إليها البحث العلمي في الألوان، لا سيما في مجاليّ الفيزياء السيكولوجية (Psychophysics) وفسيولوجيا الأعصاب (Neurophysiology).

مثال للحجج من النوع الأول، يمكن الإشارة إلى الفيلسوفين الأمريكيين المعاصرين بول بوشن (Paul Boghossian) وديفيد فيلمان (J. David Velleman)، إذ ذهبا في مقال مشترك لهما بعنوان “اللون كيفًا ثانويًا”، نشر عام 1989، إلى أن الألوان –على العكس مما تذهب إليه النزعة الاستعدادية– لا يمكن أن تكون استعدادات لإنتاج حالات بصرية باللون، لأن الألوان لا تبدو مثل الاستعدادات وفقًا لخبرتنا العادية. وفي مقال مشترك آخر لهما بعنوان “نظريات الفيزيائي في اللون”، نشر عام1991، زعما أيضًا –في مقابل النزعة الفيزيائية– أن علاقات التشابه الكيفي بين الألوان (مثل تلك التي تتجلى في كون البرتقالي أكثر شبهًا بالأحمر منه بالأزرق) تعني وجود سمات جوهرية لألوان محددة، ولا تفسير لهذه السمات إلا بالخبرة العادية (Ordinary experience)، فإذا كانت النزعة الفيزيائية صحيحة، فإن هذه السمات سوف تصبح علاقات خارجية بين خواص فيزيائية (أي انعكاسيات لأسطح الموضوعات المرئية)، وهو ما لا تدعمه الخبرة الذاتية العادية بالمرة.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

من جهة أخرى، يتبنى الفيلسوفان الأمريكيان المعاصران لاري هاردن (Larry Hardin) وجيمس ماكجيلفراي (J. R. McGilvray) حججًا لدعم النزعة الذاتية مؤسسة على بينة من الفيزياء السيكولوجية وفسيولوجيا الأعصاب، إذ أثبتت البحوث التجريبية في كل منهما أن بعض الموضوعات ذات الانعكاسيات المختلفة تمامًا، يمكن أن تبدي تطابقا لونيًا –أي تبدو بلون واحد فقط– وفقًا لمضيء معين، وهي الظاهرة المعروفة باسم الميتاميرزم (Metamerism: تأثير لوني يألفه كل منا في حياته اليومية، ويتبدى منه موضوعان ملونان على أن لهما اللون ذاته تمامًا بمقتضى مضيء معين، وليكن ضوء الشمس، ثم يبدوان بلونين مختلفين بمقتضى مضيء آخر مختلف، مثل المصباح الكهربائي). وترجع هذه الظاهرة –بمقتضى التفسير السيكولوجي – الفسيولوجي الحالي– إلى إمكانية تطابق قيم الإثارة اللونية للخلايا المخروطية –بأنواعها الثلاثة– المسؤولة عن الإدراك الحسي للون، ومن ثم إمكانية تطابق منحنيات الاستجابة الذاتية للضوء الواصل إلى العين من موضوعين أو أكثر، مهما اختلفت منحنيات الانعكاس الطيفي لهذه الموضوعات.

إضافة إلى ذلك، يمكننا التماس التفسير العلمي لعلاقات التشابه الكيفي بين الألوان فيما تقدمه الفسيولوجيا من وصف دقيق للأنماط الوظيفية لأجهزتنا البصرية، فليست هناك خواص فيزيائية للموضوعات تتميز بكونها أعضاء مترابطة داخليًا، مثلما هو الحال بالنسبة إلى علاقات التشابه الكيفي، التي تعكس الطبيعة التكوينية للألوان كونها مدركات حسية للذات الواعية. وعلى هذا، فالألوان المدركة ليست قطعًا خواصًا فيزيائية للموضوعات، لكنها بالأحرى حوادث عصبية لأجهزتنا البصرية.

على أية حال، فإن النزعة الذاتية ليست بمنأى عن الهجوم النقدي من النزعات التفسيرية الأخرى، لا سيما النزعة الفيزيائية، فوفقًا لهذه الأخيرة يتجاهل الذاتيون ضرورة التمييز بين الخواص العصبية التي تفسّر علاقات التشابه الكيفي بين الألوان، وبين الألوان المدركة ذاتها، والتي هي خواص فيزيائية للموضوعات. هذا من جهة، ومن جهة أخرى إذا كان الذاتيون يُعوّلون على الرؤى العلمية لفسيولوجيا المخ والأعصاب، فإن هذه الأخيرة لم تصل بعد إلى النقطة التي نصادر عندها على وجود علاقة تضايف بين العقل والمخ. يوجد دليل قوي على أن الحوادث العقلية تعتمد على وظائف المخ، لكن لا نزال نفتقر إلى بينة تجريبية تؤكد أن المطابقة تامة، وإلا كان في إمكاننا إذا ما لاحظنا مخ إنسان أن نحدّد خبراته بكل تفصيل! أما بالنسبة للكواليا فما زال الغموض يُغلف مواقف معظم القائلين بها، ولا تخرج هذه المواقف عن توجهات ميتافيزيقية لا تزيد في إمكانات قبولها والاقتناع بها عن أي موقف فلسفي آخر.

ربما كانت النسخة الأكثر إقناعًا من النزعة الاستبعادية، تلك القائلة بأنه لا شيء على الإطلاق ملون، ومن ثم يمكن مقارنة الحجة الاستبعادية للألوان بالحجة الاستبعادية للفلوجستون أو الساحرات (Witches)، فالاستبعادية حول الساحرات تقول ببساطة أنهن لا يوجدن، وليس أنهن موجودات ولكننا نعتقد على نحوٍ خاطئ أنهن نساء!

مقالات ذات صلة:

اضغط على الاعلان لو أعجبك

الجزء الأول من المقال

مشكلة الكواليا: الوعي والتفرد الإدراكي

النظريات المفسرة للسلوك الإنساني

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية

مقالات ذات صلة