مقالات

التنافس في الخير من أجل الأوطان

تعتمد كثير من الشعوب الأوروبية الحديثة في إدارة شؤونها الإدارية على ما استنه الشعب الروماني القديم من قوانين وأنظمة إدارية مختلفة، وتعتمد الدول في إدارة مؤسساتها الحكومية على موظفين إداريين تُعيِّنهم لأداء مهام بعينها مقابل أجر أو راتب في نهاية كل شهر.

إلى جانب هؤلاء الموظفين الحكوميين، كان هناك قديمًا وحديثًا، فئات اجتماعية وإدارية أخرى تؤدى أعمالًا ومهامًا للغير دون راتب أو أجر محدد، ومن ثم فلقد اتفق العامة والخاصة على منحهم أتعابًا أو إكراميات مقابل أعمالهم ومهامهم تلك.

لقد كان الشعب الروماني القديم هو من استنَّ تلك السُنة في أثناء الفترة الإمبراطورية (27ق.م-476م)، وقد أطلقوا على تلك الأتعاب أو الإكراميات اسم هونوراريوم “honorarium” وجمعها هونوراريا “honoraria”.

مصطلح الهونوراريوم “honorarium” اللاتيني يعنى أتعاب، أو إكراميات تُدفع بعيدًا عما يجب أو يلزم دفعه رسميًا نظير الخدمات، وذلك مثل ما يحصل عليه الأطفال من ألعاب أو هدايا وهبات من أجل إسعادهم، وأيضًا هي هبات يحصل عليها الكبار مقابل ما يؤدونه من خدمات للغير، فهي إكراميات مقابل تعبهم أو تفانيهم في عملهم بعيدًا عما يتقاضونه من رواتب.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

أما جمعها الهونوراريا “honoraria” فلقد كانت أتعابًا وإسهاماتٍ ممن يقع عليهم الاختيار في تولي وظيفة حكومية كبيرة، مثل حاكم أو قاضٍ أو قائد أو كاهن، وهي تبرعات وإسهامات منهم لصالح أفراد مدنهم.

لقد فرضت الظروف الطبيعية والاجتماعية والاقتصادية على الرومان ابتكار مثل هذا النظام، الذي يمكن نعته بأنه “نظام تكافلي”، إذ كانت المجالس التشريعية في كافة المدن الرومانية القديمة، من مجالس شيوخ ومجالس تشريعية وجمعية عامة، تُحسن جميعها اختيار الأشخاص الذين سوف يتولون وظائف عامة، فيجب أن يكونوا من الأثرياء الموسرين، حتى يمكنهم الإنفاق على مدنهم، وأن يداوموا على هذا الانفاق، ولقد أطلق الرومان على تلك الأموال مصطلح “سومّا هونوراريا” “Summa Honoraria”، وقد اشتق الرومان الكلمة الثانية في هذا المصطلح من الكلمة “هوناس” “Honas”، والتي تعني “المنصب”، أي أن هذا المصطلح بأكمله يعني “أتعاب مقابل المناصب” أو “أتعاب شرفية أو سامية”.

لقد أدى هذا الفهم لدى الرومان إلى تباري كثير من أغنياء المدن في كثرة الإنفاق على مدنهم وسكانها الفقراء، وذلك من أجل الحصول على اختيار الجمعية العامة لهم حكامًا وقادة وكهنة وقضاة لمدنهم، ومعرفتهم بأنهم لن تنقطع هباتهم وإعاناتهم لمدنهم، ولن يتقاضوا عن خدماتهم أجرًا أو راتبًا.

بفضل هذا النظام التكافلي ظلت البلديات الرومانية في رخاء وازدهار على مدى مائتي عام، منذ عهد الإمبراطور أغسطس (27ق.م-14م) إلى عهد أورليوس (96-180م).

من ثم فلقد أوجد هذا النظام التكافلي، وعلى مدى المائتي عام الأولى من الإمبراطورية الرومانية، شيئًا من المنافسة المحمودة على القيام بأعمال خيرية كثيرة من أجل المدن وسكانها.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لقد كان الأغنياء في ظل تلك الحقبة الزمنية يفعلون كل شيء من أجل الفقراء، فكانوا يتحملون نفقات إدارة المدينة كلها تقريبًا، وما يلزم من المال لتمثيل المسرحيات، وغير ذلك من ضروب التسلية والألعاب وتشييد الهياكل ودور التمثيل والملاعب ومدارس التدريب الرياضي والمكتبات العامة البازيلكات والقنوات التي تنقل ماء الشرب للمدن والقناطر والحمامات وتجميل هذه كلها بالأقواس والأروقة ذات العمد والصور والتماثيل.

لقد جرت العادة في أيام القحط أن يبتاع الأغنياء الطعام وتوزيعه من دون ثمن على الفقراء، وكانوا في بعض المناسبات يقدمون لجميع المواطنين، ولجميع السكان، زيتًا أو خمرًا بالمجان، أو يقيمون لهم وليمة عامة، أو يهبونهم قدرًا من المال.

كان من عادة بعض الأغنياء أن يقيم الواحد منهم وليمة يدعو إليها قسمًا كبيرًا من المواطنين في عيد ميلاده، أو بمناسبة انتخابه واختياره لمنصب عام، أو حتى بمناسبة زواج ابنته، أو ارتداء ابنه التوجا “عباءة الرجال” دليلًا على بلوغه سن الرشد، أو تدشين بناء أهداه إلى المدينة.

لقد كان سخاء الأثرياء وتنافسهم في الخير من أجل مدنهم سببًا رئيسًا في جمال وبهاء المدن الرومانية القديمة، فأطلال شوارعها المرصوفة، وقنوات الصرف الصحي بها لنقل المياه القذرة، فضلًا عن اهتمامهم بتوصيل الماء النقي النظيف إلى البيوت والمباني في أنابيب نظير أجر قليل، وطعام يقدم إلى الفقراء بثمن بخس وكثير من وسائل الزينة فيها، وتوافر أماكن الخدمات الطبية المجانية بها للفقراء، لجميعها خير دليل وشاهد على ذلك التنافس التكافلي في الخير من أجل أوطانهم.

اقرأ أيضاً:

اضغط على الاعلان لو أعجبك

الفوضى الخلاقة في الأدب الروماني

أزمة العدالة والخير والشر

قصة وطن

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ.د صلاح السيد عبد الحي

أستاذ دكتور بقسم الدراسات اليونانية واللاتينية بكلية الاداب جامعة سوهاج. ومدير مركز حضارات البحر المتوسط.

مقالات ذات صلة