فن وأدب - مقالاتمقالات

اللص الجميل – الجزء الثاني

قصة قصيرة

رقم جوالها مدون بسيرتها الذاتية سأحدثها، وسوف أتعامل معها وجها لوجه، ومع خبرتي غير البسيطة في التعامل مع البشر سأصل لما أريد. اتصلت بها لترد علي بصوت ذو رنين خاص، يشعرك بأنك تحادث إحدى أميرات العصر الفيكتوري، قلت لها:

– حضرتك ا. فادية الأنطاكي؟

– نعم يا فندم.

– معذرة على الإزعاج لقد اشتريت أمس جهاز حاسوب محمول من إحدى مقاهي الإنترنت، ولكن عندما فتحته وتفحصته وجدته يحمل ملفات علمية كثيرة وسيرتك الذاتية، لوهلة شككت بأنه مسروق، فهل أنت قمت ببيعه بما يحمله أم أنه سرق منك بالفعل؟

اضغط على الاعلان لو أعجبك

كنت أتوقع لهفة وفرحة ومشاعر متوقدة في أي اتجاه، ولكن كعادتها في كل شيء صدمتني بردها التلقائي الهادئ والبسيط قائلة:

– لا، لقد سرق مني.

لم أستطع منع الدناءة التي بي وأنا أقول لها:

– لقد اشتريته من البائع فقط بثمانمائة جنيه، فهل تريدين استرداده بتسديد هذا الثمن لي؟ أثق بأنك لن ترضي لي بالخسارة، فما أنا إلا ضحية، وأرفض أن يكون معي حاسوب رخيص الثمن ولكنه مسروق.

وكانت دهشتي البالغة والقصوى حين ردت أيضا بمنتهى البساطة قائلة:

اضغط على الاعلان لو أعجبك

– وأنا كذلك لا أرضى لك بالخسارة، ومكافأة لك على تعبك احتفظ به لنفسك ومبارك لك عليه، وللعلم لقد حررت محضرا به كافة بيانات الجهاز ورقمه المتسلسل، سلاما.

وأغلقت الخط!!

ما هذا؟! أين تلك الفتاة المنكسرة الضعيفة الرقيقة الحالمة العاطفية؟! لن تجد لحظة صدق بالغة أكثر من شخص يحاور نفسه، وهذا ما وقعت عليه في ملفاتها! هل رد فعلها هذا قناع لقوة مزيفة؟ أم أن ما قرأته زيفا لحقيقة مغايرة؟!

انتابني شعور بالسخف، ماذا أفعل؟ ولماذا أبحث؟ ولِم انشغلت بها أصلا؟ أنا لص لا يعنيني الصواب من الخطأ في شيء، ولا يهمني من كان طاهرا أو ملوثا، لِم شغلتني هذه العالمة الذرية مبتكرة أشعة الليزر التي تعالج بها الإمساك وآلام الولادة؟! لهذا وقتلا لأي تهاون قادم ويكفيني ما فات من خسارة، تناولت الجهاز وقمت واقفا وعازما الذهاب مسرعا لبيعه إلى شيكو والتخلص منه.

ولكن وكأنما كانت تقرأ أفكاري، ارتفع رنين جوالي لأجد رقمها ظاهرا على الشاشة والذي لم أنسَه، ولست أدري لماذا! كطفل صغير يخرج مسرعا من حالة البكاء إلى الضحك، رغم دموعه التي تغرق عينيه فور تلبية طلبه الذي يبكي لأجله، انتابتني فرحة غامرة برؤية رقمها ظاهرا على شاشة جوالي!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

أسرعت بالرد عليها، وإذا بها تترقق كثيرا عن ذي قبل وهي تقول لي:

– لو سمحت هل من الممكن أن أطلب منك طلبا خاصا؟

بمنتهى السرعة وعدم التريث، وبلهجة فشلت في منع صبغة الفرحة بها قلت لها:

– تفضلي..

برجاء شديد قالت:

اضغط على الاعلان لو أعجبك

– الجهاز عليه جهد سنين من الأبحاث العلمية، أنا والله لا يهمني الجهاز ولا ثمنه، ولكن أريد فقط نسخ هذه الأبحاث، وفائدتها لن تعود عليَّ فقط، وإنما للعالم كله، أتمنى أن تتفهم مقصدي.

– يا أستاذة هذا ما اتصلت بك لأجله، أخبريني فقط كيف أوصله لك مع ضمان عدم إيذائي بأي شكل كان.

ظلت المحادثة أكثر من نصف الساعة، اتفقنا فيها على ثلاثة حلول، وكان آخرها أنها ستحمل معها ذاكرة فلاشية طوال سيرها، وأنا فقط من سيحدد اللحظة المناسبة للتواصل المباشر ومنحها ما تريد حين أضمن عدم المراقبة والتتبع، كانت مصرة على إرسال أخيها وهذا ما رفضته تماما.

ولهذا أصبح لدي تصريح بمراقبة جميع تحركاتها، واقتناص الفرصة المناسبة لرؤية ملامحها وانفعالاتها وهي تتحدث وتتحرك. وكانت تلك الضربة القاصمة الثانية!

كانت تذهب لعملها صباحا بعد أن عادت من المؤتمر الذي كانت به في مدينة الإسكندرية، ولا تعود إلى المنزل مباشرة، وإنما تذهب لأحد ملاجئ الأيتام لتقضي ساعة، تلاعب هذا وتمسح على رأس تلك وقبل أن تخرج تسأل المشرفة عن احتياجاتهم. وتصلي العصر بالمسجد الملحق بهذه الدار.

وتذهب إلى بيتها وتخرج بعد ساعة واحدة، وهي محملة بأثقال لا أدري ما هي إلى جمعية خيرية شهيرة، لتجلس عندهم قرابة نصف الساعة قبيل صلاة المغرب، ثم تصلي المغرب بالمسجد القريب منهم وتعود إلى بيتها دون أثقالها، ولا تخرج منه إلا في صباح اليوم التالي.

لم يكن الجدول ثابتا بهذا المنوال، ولكن حياتها لم تتغير كثيرا في الأيام التي لم تفعل ذلك. كنت أبحث عن نقيصة لها، فإذا بي أجد التكامل يزداد!

سحقا لك يا فتاة!

لقد تربيت على أن الغابة التي نعيش فيها ليس بها إلا الوحوش الضارية، ويجب أن تكون مفترسا، كي تضمن لك مكانا وجزءا من الوجبة التي يتقاسمها الذئاب.

لماذا فعلت بي كل ذلك؟

لماذا كشفت لي الوجه الآخر للحياة؟

لماذا أضاءت مصباحا ليغشي بصري ويعميني عما كنت راض به؟

ذات مرة وأنا منتظر أمام المسجد الذي تصلي به المغرب قررت أن أدخل لأصليه! وكأنما قد رشت الإمام ليقرأ تلك الآيات لي، فقد قرأ آية عن التوبة لا أذكرها، ولكن معناها بأني مهما جئت بمصائب وكوارث وكبائر سيغفر الله لي كل ذلك، بل وقد تتبدل إلى وزنها حسنات!

سحقا سحقا سحقا! لقد كنت مرتاحا هانئا لا ينقصني شيء، ما الذي جرى؟ لماذا أفكر في التوبة؟ لماذا أبحث عن آيات أخرى تبشرني بأن لي مستقبلا؟! ولكن أي مستقبل أتحدث عنه؟

لقد جئت من قريتي باحثا عن عمل هنا بالقاهرة، ورغم تخرجي من كلية الحقوق فشلت في كل الوظائف التي حاولت العمل بها، وأخيرا كانت تلك الوظيفة البسيطة والخفيفة الوحيدة الناجحة في حياتي، التي منحتني كل ما أريد من أموال، فقد سهلت لي كل ما أصبو إليه!

حتى ظهرت فادية الأنطاكي في حياتي!

مر أكثر من ثلاثة أسابيع على مراقبتي لها، وهي تتصل كل يوم تسألني متى سيحين الموعد، وأنا أماطل في الحوار معها منتشيا بسماع صوتها أطول مدة ممكنة، وأخبرها بأن اطمئناني لها لم تكتمل مراحله بعد، وعند تمام الاطمئنان سوف أمنحها ما تريد.

لا أريد أن تنتهي هذه المراقبة التي أجهزت علي، ولم يعد ممكنا نومي قبل سماع صوتها! قرأت جميع ملفاتها خمس مرات حتى الآن رغم كثافتها! حتى بت أسمع صوت أفكارها يُدوّي في أذني طوال الوقت! ولهذا ولكي أنتهي مما أنا فيه جئت إليك، لم أتخيل يوما أن أذهب إلى طبيب نفسي!

ولكن بعد ارتباطي القوي بها، نعم أحبها ولم يعد للدنيا معنى بدونها! ولكن أنا عاطل ولص وبي كل النقائص، وهي استكملت كل البهاء والنقاء والعلو والمكانة العلمية والعملية بشكل خيالي، وبما أنه لا يمكن أن يلتقي الثرى بالثريا، أريد الخلاص منها، حتى لو بالصدمات الكهربية أو غسيل المخ أو أي بحث جديد يمسح من ذاكرتي كل ما يتعلق بها!

أنهى الطبيب تدوين بعض ملحوظاته البسيطة وألقى بمفكرته جانبا وقال:

– لقد أدهشتني قصتك للغاية، وسبب الدهشة فيها ليس ما قلته أنت ولكن ما قالته هي!

التفت المريض نحو الطبيب وقال بدهشة أيضا:

– لم أنقل لك كلاما عنها يثير دهشتك هكذا!

هز الطبيب رأسه قائلا:

– بوليوود قد تغلق أبوابها ولن تسمع كثيرا عن الأفلام الهندية بعدما أخبرك بالتالي، فرغم أن أسرار المريض عندي شيء مقدس لا يمكن المساس به، وقد أقسمت على عدم الإفصاح عنها، ولكن لأن هذه المرة تختلف قلبا وقالبا والعلاج يستوجب إخراجها من مكنونها، سأقول لك ما يذهلك معي كذلك، فادية الأنطاكي كان لها جلسة عندي بالأمس تريد التخلص منك بالعلاج النفسي، فهي ترصدك كل يوم وتراك ملاحقا لها، تتصل بك بلهفة لأنها كذلك لا تستطيع النوم قبل سماع صوتك، و

كانت فرحتها غامرة عندما رأتك تدخل المسجد لتصلي، ولكنها ترى الحلم خيالا وخبالا ولا يمكن للماء أن يختلط بالزيت، لذا يا بني علاجكما سويا أن تخرج من هنا حالا إلى بيتها طالبا يدها، ولتنسَ كل ما أنت فيه، فيمكنها بعلاقاتها ومعارفها أن تجد لك عملا مناسبا، المهم اطرق الباب وتوكل على الله ولا تتراجع خطوة واحدة عن حالة التطهر التي أنت بها الآن.

حاول الطبيب أن يستكمل خطبته المطولة ولكن كان المريض قد قفز وانطلق خارجا دون الرد عليه!

تمت بحمد الله

اقرأ أيضاً:

الجزء الأول من القصة     

الملاك

خاتم الجميلة

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*****************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. أحمد السعيد مراد

طبيب وروائي – عضو اتحاد كُتاب مصر

مقالات ذات صلة