مقالات

الكرسي الشاغر!

من تقاليد عشاء سيدر اليهودي (احتفالاً بعيد الفصح) أن يكون من بين كراسي المائدة كرسيٌ شاغر كرمزٍ للنبيٍ المنتظر، أو للضيف الذي قد يصل في أية لحظة، أو تكريمًا لفردٍ عزيزٍ فقدته الأسرة.

هذا التقليد له كثرة من النظائر في مواضع أخرى؛ فمن جانبه، يحرص «جيف بيزوس» Jeff Bezos (الرئيس التنفيذي لشركة أمازون Amazon) على وجود كرسي شاغر في كل اجتماع لمجلس إدارة الشركة، ويمثل هذا الكرسي «العميل»، الذي يصفه «بيزوس» بأنه «الشخص الأكثر أهمية في أية قاعة للاجتماعات».

وفي مناقشته لمشكلة الجامعة الحديثة، ذهب الفيلسوف الفرنسي «جاك دريدا» Jacques Derrida إلى أن أفضل مسار يُمكن اتباعه هو أن يكون المسؤول في أي موقع جامعي فيلسوفًا، لكنه استدرك بأنه لا يوجد زميل –مهما كان بارعًا– لديه ما يكفي من التنوير لكي يكون فيلسوفًا حقيقيًا، لذا يجب أن يظل كرسي المسؤول الأكبر شاغرًا!

كذلك الحال في المؤتمرات والأحداث الدورية التي تُنظمها مجموعة PEN، وهي مجموعة دولية للدفاع عن حرية التعبير؛ إذ تتميز هذه التجمعات عادةً بوجود كرسي شاغر لكاتبٍ أو صحافي غائب، قد يكون قيد الإقامة الجبرية، وقد يكون مسجونًا، وقد تكون كتاباته مُحاطة بأسيجة كثيفة تحول دون وصولها إلى الرأي العام، بل وربما تم اختطافه وقتله في مكانٍ ما.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

يتم استخدام الكرسي الشاغر من قبل المجموعة لتذكير الكتاب والصحافيين وأرباب الفكر بأهمية الدفاع عن حرية الرأي والتعبير، وكرمز للتحديات الضخمة التي تُواجههم!

الكرسي الشاغر في العلاج النفسي

من جهة أخرى، عادةً ما تُستخدم تقنية الكرسي الشاغر كعلاج نفسي وفقًا لنظرية الجشطالت Gestalt Theory (البنية الكلية للإدراك والسلوك)، لا سيما لأولئك الذين يُكابدون أزمات عاطفية عميقة الجذور مردها أشخاص أو أشياء بعينها في حياتهم.

ووفقًا لهذه التقنية يجلس المريض أمام كرسي شاغر مستدعيًا الشخص أو الشيء الذي سبَّب له الأزمة وكأنه ماثلٌ أمامه، ثم يبدأ الحوار معه بصوتٍ عالٍ محاولاً أن يكون صادقًا ومسترسلاً في التفاصيل التي لا يجرؤ على –أو لم يتمكن من– إظهارها في حياته اليومية، وموضحًا كيف عانى ويُعاني من موقف نوعي يُهيمن بالسلب على مشاعره.

ويجب على المعالج مراقبة الحوار وإعادة توجيهه بحيث لا تكون هناك أية انحرافات قد تزيد من سوء الوضع، دون تقييد تدفق الأفكار للمريض.

الكرسي الشاغر في الثقافة العربية

أما في الثقافة العربية المعاصرة فيرمز الكرسي غالبًا إلى المنصب أيًا كانت درجته، رغم كونه في الثقافة الإسلامية رمزًا لملك الله وعلمه وقدرته في كونه!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ومع اقتراب رمزية الكرسي الشاغر من مفهوم المراقبة في السر والعلن، إلا أن هذه الرمزية باتت مفتقدة لدينا تحت وطأة صرعات وتحالفات المصالح؛ ليغدو الكرسي تجسيدًا للتسلط والهيمنة، والوساطة والمحسوبية، ووهم البطل المتفرد في حكمته وإمكاناته واستحقاقاته، أما خلو الكرسي فأمرٌ مستبعد، لأنه دليلٌ (مكروه) على افتقار مجتمعنا للقيادات الرشيدة!

كم نحن في حاجة إلى استعادة المعنى الحقيقي للكرسي الشاغر، وإلى استلهام رمزيته في كثرة من مواقعنا واجتماعاتنا ونقاشاتنا، بحيث ننظر إليه فنستحضر الفيلسوف الغائب، والكاتب أو الصحافي المُبعد، والعميل المُستهدف، والمواطن الغافل، ورجل المستقبل، والوطن الضائع… الذي قد يُرشدنا وصوله الوشيك، والمؤجل دائمًا، إلى ما خفي علينا من حقائق، وإلى مجرى ومغزى العلاقة اللا متناهية بين الذات والآخر!

اقرأ أيضاً:

عالم ما بعد الحقيقة 

 الفلسفة السياسية

الإعلام حصان طروادة الحديث

اضغط على الاعلان لو أعجبك

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية

مقالات ذات صلة