مقالات

الغزو الثقافي وضياع المستقبل – الجزء الرابع

المواجهة بالفكر

في مواجهة الغزو الثقافي بعد التأكد من وجوده وتلمس الخطر الداهم الذي يُشكله على الفرد والمجتمع، من المفيد أن نعلم أن مواجهة تلك الهجمات التي يمارسها أركان الغزو الفكري، أن يكون الفعل الثقافي هو محور العمل للمواجهة فالفكر يجب أن يُوَاجَه بالفكر، والقلم محل البندقية.

حيث يجب أن يكون جنود تلك المواجهة هم أصحاب الفكر والمنابر الإعلامية وحملة الأقلام المبدعة والناقدة، وقادة الفكر بكل المستويات؛ اجتماعية وثقافية ونفسية وتربوية.

فنون المواجهة

لا يجب ولا ينفع أن تقتصر المواجهة في الحرب الثقافية على جانب دون الآخر، فأركان الغزو الثقافي لا ولن يَتركوا جانب من جوانب التفاعل والتأثير الفكري والقيمي والسلوكي إلا دخلوا منه وبقوة ومكر شديد، كما يجب أن يكون جانب النقد سلاح فعَّال في تلك الحرب ، والمقصود بالنقد الفعال ، هو نقد السلبيات الداخلية بطريقة ينتج منها بناء لا هدم.

يجب أن تعمل العقول لإيجاد الحلول للمشكلات لا مجرد رصد المشكلات؛ فالغزو الثقافي يعمل عمل شبيه بذلك فهو يرصد مشكلات المجتمع الذي يقوم بغزوه فكريا، ويُقدم للشعوب بدائل مُزيَّفة ومفاهيم فضفاضة تُداعب العقول والقلوب من قبيل الحرية والرفاهية والتنمية المجتمعية.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ولا ننكر أهمية تلك المفاهيم، بل نستنكر استغلالها كشعارات للوصول منها لأهداف أخري، إن أصحاب الأقلام الحرة والفكر الحقيقي يجب أن يتبعوا أسلوب الرصد وإيجاد الحلول المنطقية الموافقة للقدرات ولإمكانيات المتاحة.

الغزو الثقافي لا يخضع لمنطق المدفع والدبابة ، بل يخضع لمنطق الحُجة والدليل والاستدلال الواعي لمقتضيات الزمان والمكان ، والقدرات المتفاوتة للأفراد والقدرات والإمكانيات المتاحة؛ هي مواجهة تُدرك مواطن الضعف وتقوِّيها ومواطن القوة وتنميها ، مواجهة لا تخشى النقد بل تقابل الفكر بالفكر.
وتجدر الإشارة هنا لمفهوم التفاعل الثقافي

التفاعل الثقافي ومقاييس هامة

فالتفاعل الثقافي يُعد من مصادر القوة في مواجهة الغزو الثقافي، وهنا قد يبدو الأمر غير واضح، لما يحمله مفهوم التفاعل والتبادل الثقافي من إجراءات قد تُستخدم من جهة الغزو الثقافي نفسه.

أفرد الدكتور “محمد عمارة” فى كتابه “الغزو الفكرى ” مقياسين هامين بمجرد حصولهما تتم تلك الحالة من التفاعل الحضارى بين حضارتين مختلفتين والشرطان هما؛
1- التفاعل وتبادل المشتركات الإنسانية للحضارات.
2- عدم التأثير فى الخصوصية لكل حضارة

الفارق بين المشتركات الإنسانية وخصوصية الحضارات

فالمشتركات الإنسانية هى فى نظرى حالة من حالات المُطلقات التى تخدم الإنسانية بوجه عام ولا يختلف عليها اثنان ولعل من أهم مصاديقها مثلا البحث العلمى والتقدم التكنولوجى فى شتى مجالات العلم المادى القائم على التجربة والاستنتاج وذلك مثل الطب والتقدم النووى والفيزيائى والهندسى والتقنى وغيره من شتى مجالات العلم المادى

اضغط على الاعلان لو أعجبك

والتى تخدم بشأنها الإنسان وترفع المجتمعات والحضارات المختلفة إلى آفاق التقدم والتطور المدنى المطلوب والذى لا يمكن لأى حضارة أن ترفضه أو تقاومه طالما يخدم الإنسانية ولم يتم توجيهه للحروب والدمار كما كان الحال فى شأن صنع القنابل النووية والأسلحة البيولوجية والكيماوية وغيرها.

كذلك فبعض العلوم الإنسانية مثل علم النفس مثلا يصبح التباحث والتبادل الحضارى فيه هامًا. ويخدم الإطار نفسه، وفى المجمل فإن قضية نهضة الإنسان والصعود بالمسار المجتمعى بوجه عام كقضية كلية لها ضرورتها لا يختلف عليها اثنان، ولكن التباين يتمثل فى خصوصية كل حضارة فى طرح سبل الإصلاح الإنسانى والاجتماعى بما تقتضيه فلسفة كل حضارة ورؤيتها حول طبيعة الإنسان نفسه وفلسفة وجوده ومدى علاقته بالغيب من عدمها.

وبالتالى تندرج العلوم التى تحدد طريقة الإصلاح فى كل حضارة تحت إطار خصوصية تلك الحضارة ، فيكون لكل حضارة أداة معرفية خاصة ورؤية كونية متفردة وفلسفة متمايزة تؤدى إلى أيدولوجية معينة تتمثل فى طريقة سياسية واقتصادية واجتماعية وأخلاقية مختلفة تعبر عن تلك الحضارة وتدخل فى دائرة الخصوصية لتلك الحضارة.

الدكتور محمد عمارة وكتابه “الغزو الفكري”

ويضرب الدكتور عمارة فى كتابه ” الغزو الفكرى ” مثالا رائعا عن تلك الحالة فيقول (فالعالم والمثقف المسلم لن يشعر بأي قدر من النفور أو الغربة أو الاستغراب ، إذا هو نظر في الحقائق والقوانين التي أبدعتها الحضاره الغربية في الكيمياء والطبيعة والجبر والحساب والهندسة والطب والجيولوجيا والطاقة..إلى آخره.
وكذلك عندما يضع حقائق هذه العلوم في الممارسه والتطبيق، كما أنه يستطيع – دونما حرج أو تعديل – أن يبدأ إبداعاته و إضافاته في ميادين هذه العلوم من حيث انتهى الإبداع الغربي في ميادينها؛ لأنه هنا أمام “فكر ” هو ” مشترك إنساني عام ” .

لكن هذا العالم والمثقف لن يجد هذه الألفة عندما ينظر في كثير من ” المكونات الثقافية ” ، التي هي طبيعية في إطارها الغربي. ففنون الغرب التي لا تحرم العُرىّ ، بل تقيم تماثيله في الميادين والمنتزهات. وفلسفات هذا الغرب التي لا تحرم ” الحرية الجنسية” طالما خلت من الجبر والإكراه والاغتصاب.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ولا تعيب حرية الزندقة والإلحاد ولا الدعوة إليهما ولا التبشير بهما. والتي تؤسس علومها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية على النزعة المادية، التي ترى في الإنسان سيدًا لهذا الكون والمحور الحاكم بإطلاق في هذا الوجود.

هذه الفلسفات والعلوم الإنسانية والآداب .. وما ماثلها ، لابد وأن تُثير في نفس العالم والمُثقف المسلم من النفور والغرابة ما لا يجده عندما ينظر في إبداع الغرب بميادين علوم المادة وظواهر الطبيعة؛ لأنه أمام هذه الفلسفات والعلوم الإنسانية والفنون والآداب؛ يجد نفسه بإزاء ” خصوصية حضارية غربية ” ، تتميز عن ” الفكر ” الموضوعي ، الذي هو ” مشترك إنساني عام ” ..

إذن ، فهناك على وجه التحقيق ، في الفكر الإنساني ، ما هو ” مشترك ” وما هو “خاص”. وإذا كان هذا هو القول العام والمجمل؛ فلا بد له من التفصيل الذي يضع النقاط على الحروف ! (5)

كيف تحافظ الحضارات على خصوصياتها في ظل التفاعل الحضاري؟

وعمليا ، فإن تلك الحالة من التفاعل الحضارى تتم بصورة تلقائية نتيجة انفتاح الحضارتين على بعضهما وصور ذلك كثيرة لاتُحصى فمنها حركات ترجمة كتب ومؤلفات مفكرى وأدباء كل حضارة، كذلك التبادل التجارى للبضائع والمنتجات والأدوية يتم فى صورة امتزاج بين تجار وأطباء الحضارتين وقد يكون بصورة أوسع نتيجة التطبيع الكامل حتى على المستوى الحكومى والرسمى بين الحضارتين ويتمثل فى البعثات العلمية المتبادلة وتبادل الخبرات فى كافة المجالات.

وحتى لا تقع حضارة ما أسيرة للغزو الفكرى والثقافى للأخرى ينبغى المحافظة على المظهرين الفائتين ويظهر ذلك فى تلك المطالب أو الشروط؛

اضغط على الاعلان لو أعجبك

أولا : الإدراك المعرفى لمفكرى تلك الحضارة وساستها لطبيعة المشتركات الإنسانية العامة وضرورة الانفتاح على الحضارات الأخرى لاكتسابها وإلا تعرضت تلك الحضارة للعزلة وتأخرت فى ركوب حافلة التقدم المادى والعلمى المفيد للإنسانية وتلك أولى درجات الضياع .

وهنا يظهر دور علماء الدين والقادة الروحانيين فى تلك الحضارة مثلما ظهروا فى حضارتنا الإسلامية مباركين لخطوة التقدم المادى والعلمى؛ بل إن بعضهم كابن سينا وجابر بن حيان والحسن بن الهيثم والبيرونى (رغم أن منهم من كان فى الأصل فيلسوفا ومفكرا ) كانت لهم إسهامات علمية تجريبية فى الطب والكيمياء والجغرافيا والبصريات خدمت التطور العلمى لحضارتنا واستفادت منها الحضارة الغربية فيما بعد.

ثانيا : الفهم العميق لخصوصية الحضارة والاستعداد للدفاع عنها حتى لا تنسحق وتذوب فى أفكار الآخر ، وهنا يأتى دور مفكرى ومتكلمى تلك الحضارة مدافعين عن فلسفة ورؤية تلك الحضارة المعرفية بوجه عام ولاينكر أداء علماء الأخلاق والقادة الروحيين الهام فى المحافظة التطبيقية على أسس تلك الحضارة ومبانيها. وباصطلاح آخر لمفهوم الخصوصية نطلق عليه مايُسمى بالهُوية الفكرية والثقافية للحضارة.

الفكرفي الختام؛ علينا تنمية روح البحث بالتطلع للعلم والبحث عن المزيد من العمل الجاد والمثابرة في جميع المستويات. يجب الثقة في إمكانية الوصول لمستوي عال من العلم والثقافة النافعة المقترنة بالأخلاق والتي تكون سبب في تقدم ورُقي المجتمع.

فالمجتمع الراقي هو من يستطيع استخراج كنوز العلم والمعرفة ويُوظف الطاقات البشرية لما فيها مصلحة الفرد والمجتمع.

اقرأ أيضا:

الجزء الأول من المقال 

الجزء الثاني من المقال

الجزء الثالث من المقال

مقالات ذات صلة