إصداراتمقالات

الشعب يريد اسقاط النيش

إبتسم هادي إبتسامة عريضة, إبتسامة لا تعبر إلا عن جزء بسيط من الفرحة التي ترقص داخل قلبه, من حقه أن يفرح, فقد جاءت أخيرا اللحظة التي حلم بها طوال حياته, فبعد أن أنهى دراسته, وحصل على عمل جيد واعتمد على نفسه, ها هو الآن يستطيع أن يطلب “بقلب جامد” يد “أمل”, أمل حياته, لكي يكمل نصف دينه, يكمل “نصه الحلو”, و يعيش في تبات و نبات و يخلف صبيان و ….

–  و حضرتك بتشتغل إيه؟ , صوت أجش يفسد اللحظة الحلوة,

– أنا يا عمي خريج كلية آداب قسم فلسفة وبشتغل في شركة كبيرة للدعاية و الإعلان و باخد مرتب كويس و الحمد لله,

– و المرتب الكويس ده يبقى كام إن شاء الله؟

اضغط على الاعلان لو أعجبك

أنا باخد 3000 جنية ده غير المكافآت, وبعد الترقية هيزيد المرتب إن شاءالله هندفع جزء منه لإيجار الشقة و هيفضل مبلغ كويس هيكفينا أنا و أمل و …

– كمان شقة إيجار!!! طيب و مجهز نفسك للجواز, يعني معاك فلوس للعفش و الفرح و كده؟

– أنا محوش مبلغ كويس, بس أنا إتفقت أنا و أمل إننا نبدأ حياتنا بالحاجات الأساسية, و شوية شوية هنشتري بقية الحاجات, يعني مثلًا هنكتفي بكتب الكتاب و هنوفر فلوس الفرح لرحلة شهر العسل و غرفة السفرة هتكون بسيطة من غير النيش و ….

– أولا الإتفاقات بتكون معاية أنا مش مع أمل, دي لسة عيلة و مش عارفة مصلحتها, ثانيا مفيش حاجة اسمها حاجات أساسية, بنتي لازم تتجوز و تتجهز زي أحسن بنت في العيلة, فرح و تليفزيون إل سي دي و من الآخر كده … “من غير النيش, ما تلزمنيش”.

نظر هادي للكتب التي تملأ مكتبته في غرفته و تذكر, “من غير النيش ما تلزمنيش”,

اضغط على الاعلان لو أعجبك

– بقى النيش هوه إللي هيتحكم فيه, حبة خشب و إزاز هيقرروا أتجوز ولا لأ,

جسم هلامي مالوش أي لازمة غير المنظرة والفشخرة على الناس يحدد إما أفضل عايش متعذب لوحدي أو أتزوج و يتقفل عليا أنا و مراتي باب واحد,

بقى كل الأنبياء و المصلحين و الفلاسفة و المفكرين إللي بذلوا عمرهم عشان يعرف الإنسان إزاي يكون إنسان بعقله و بمعرفته و بعمله للخير و تركه للشر, ضحوا كل التضحيات دي و بعدين ييجي خشب و قزاز و حديد و سيراميك يتحكموا في الإنسان و يحددوا قيمته!!!

طب ما أحاول مع أبوها تاني؟

لأ الفكرة أصلا مرفوضة, إن الإنسان يبقى عبد لأجهزة و عفش و عربية, إننا نفضل نجري في سباق المنظره على بعض لآخر العمر,

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لأ, لازم حد يقول لأ, يقول كفايه, كفااااااااااااااااية.

نهض هادي مسرعا وفتح جهاز الكمبيوتر و كتب على الفيسبوك:

“يوم الجمعة الجاية هعمل مظاهرة لوحدي, هشتري نيش و هحرقه في ميدان عام, النيش رمز لطغيان المادة و المنظرة, أنا بتكلم بجد, الشعب يريد إسقاط النيش “.

الصبح, إستيقظ هادي على رنين هاتفه المحمول:

– ألو …

اضغط على الاعلان لو أعجبك

– إيه يبني إللي عملته ده, إنت بجد هتحرق نيش في ميدان عام,

– آه هعمل كده و ماحدش ليه دعوة بيه,

– إنت عارف إنت عملت إيه, الإيفينت إللي إنت عملته على الفيس إمبارح إشترك فيه أكتر من 10 آلاف واحد, الكل بقى بيتكلم عن إسقاط النيش , إنت عملت مظاهرة بجد,

– مش مهم, أنا هعمل إللي في دماغي و إللي يحصل يحصل.

– بعد إذنك يا أستاذ, حاسبي ضهرك يا مدام, أيوه يا أسطى نزل النيش هنا.

– ما تعقل يا هادي, أنا صاحبك و صديق عمرك و عمري ما شفتك بتعمل حاجة مجنونة زي كده, حد يدفع دم قلبه في حاجه و يحرقها, إنت شايف الناس متجمعين أد إيه؟ بلاش فضايح الناس كلها بتصور.

– معلش إنت مش فاهم حاجه, ساعدني أطلع فوق النيش ….

السلام عليكم يا ناس, يا مصريين, قبل ما أعمل إللي أنا هعمله لازم أقول و أوضح أنا هعمل كدا ليه,

طبعا بعضكم بيقول عليا مجنون, و الباقي بيقول عليه شاب مطحون و مش عارف يتجوز بسبب غلاء الأسعار و ضعف الإمكانيات, لأ, أنا مش ده ولا ده, أنا هقول لكم حكايتي في كلمتين, هادي إللي أدامكم ده شاب مصري عادي, قضى فترة طويلة من عمره بيقرأ في كتب كلها بتتكلم عن إن ربنا فضل الإنسان عن باقي الكائنات بعقله, و لو فكر بيه صح, هيفهم نفسه و هيفهم الدنيا, و هيعرف يميز الأفعال الصح من الأفعال الغلط, و بالإرادة هيقدر يعمل الصح و يبعد عن الغلط, يعني الهدف من عيشتنا دي كلها هو المعرفة و السلوك السليم, وكل حاجة تانية من أكل و شرب و بيت و جواز بيخدموا الهدف ده, يعني وسيلة مش هدف,

لكن بعد التخرج و عشان أعرف أكون نفسي إشتغلت في شركة دعاية و إعلان, وبقيت بعمل حاجات كتير أنا مش مقتنع بيها, بقت وظيفتي أخلي الفسيخ شربات, بقت وظيفتي أخليك تشتري, و بعد ما تشتري تشتري, و لو مش عايز تشتري برضه هتشتري, ما هو الموبايل الحديث فيه أحدث منه, و النيش الجميل فيه أجمل منه, و الساندوتش اللذيذ فيه ألذ منه, و البحر بيحب الزيادة زي ما بيقولوا,

لأ خلاص كفاية كده, لازم حد يكسر الدايرة الجهنمية دي, أنا جاي هنا النهاردة أقول لأ, أنا مش عايز نيش, النيش خلاص ما يلزمنيش, أنا هشتري إللي أنا عايزه مش إللي الناس عايزاه, مش أشترى عشان متعة الشراء ولا للمنظرة و الفشخرة على البشر …

بيييييب, بيييييييييييييييييييييييييب, وسع يا إبني لعربية جمال بيه,

نزل جمال بيه (وكيل أول وزارة الإستثمار) من العربية و فتح الباب لمستر “جون”, صاحب مصانع “الأثاث الأمريكي” في مصر, نزل مستر جون بقبعته العريضة التي تغطي شعره الأصفر و عينيه الزرقاوتين تشعان قلقا و غضبا و نادى بأعلى صوته:

– مستر هادي لو سمهت, أنا آيز أكلم هضرتك كلمتين ألى إنفراد,

– مفيش كلام على إنفراد, لو عندك كلام قوله بصوت عالي أدام الناس كلها,

– أنا عرفت موضوعك و معجب جدًا بشجاعتك و عشان كده قررت أعينك في قسم الدعاية في شركاتي و بمرتب محترم و كمان عفش بيتك كله هدية من شركة “الأثاث الأمريكي” في مصر.

– أولا بالنسبة لشغل الدعاية , خلاص, إستكفيت منه, أنا قدمت إستقالتي إمبارح و مش ناوي أشتغل الشغلانة دي تاني, ثانيا بالنسبة للمرتب الكبير و العفش الهدية, إفرض إني وافقت, طب و بعدين, هاخد فلوس كتير عشان أشتري حجات كتير, و كل ما أشتري أكتر تعلى قيمتي أدام الناس و تنزل أدام نفسي, و بعدين ده سباق مالهوش آخر, الجهاز الحديث فيه أحدث منه, و البيت الواسع فيه أوسع منه, ده سباق عقيم هدفه استعباد الناس, الناس تطحن نفسها شغل في مصانعكم و شركاتكم طول اليوم عشان تصنعوا و تنتجوا بضايع ينزلوا همه بمرتباتهم يشتروها على آخر اليوم, فعلا دايرة جهنمية, دايره هدفها استعباد الناس عن طريق إغراقهم في ثقافة الإستهلاك و التفاخر عشان أرباحكم و مكاسبكم تزيد و تزيد,

لأ, كفاية استعباد, الإنسان مش مخلوق عشان يشتري و يتمنظر على خلق الله, إنت عارف لما عربية مرسيدس بتمشي في الشارع وسط أحياء فقيرة بتعمل إيه في نفوس الناس, إنت عارف لما المسلسلات و الأفلام بتعرض حياة البهوات و المليونيرات في القصور و حمامات السباحة بتحطم كام بني آدم, إنت عارف إن بسبب الثقافة دي فيه كام شاب و كام شابة محرومين إنهم يكونوا أسرة سعيدة في حب و طاعة و إطمئنان.

– يا جمال بيه, كده الموضوع بقى كبير و فيه ناس بتصور الكلام الخطير ده و بكرة ينزل على النت و يبقى ثقافة عامة, لو ما أنهتوش الموضوع ده حالا أنا بهدد إننا نسحب إستثماراتنا من مصر و هتتحملوا النتائج كاملة.

– هدد زي ما إنت عايز, ما هي مش غلطتك, دي غلطة إللي باع لك البلد بتراب الفلوس عشان الرشاوي و العمولات و بقيت بتتحكم و بتتشرط زي ما إنت عايز, برضه هعمل إللي في دماغي و محدش هيقدر يمنعني.

– يلا بينا يا جمال بيه …

– يا ناس يا هوه, المشكلة مش في النيش بس, المشكلة في أي حاجه بنشتريها عشان الإعلانات أقنعتنا إننا مش هنبقى سعداء بجد إلا لما نشتريها, المشكلة في ثقافة الإستهلاك إللي أنستنا قيمتنا كإنسان, إنسان قيمته الحقيقية في معرفته و سلوكه, قيمته الحقيقية إنه يعرف مين إللي خلقه و خلقه ليه و لما يعرف, يعيش المعنى الحقيقي لإنسانيته.

إشتعلت النيران في النيش و في وجبات الماكدونالدز و عبوات البيبسي و الكوكاكولا التي جمعها الناس بجانب النيش تعبيرا عن إقتناعهم بفكرة هادي و تأييدًا له وسط غياب تام لكافة المحطات الإخبارية التي هددتها الشركات المعلنة بأنها ستوقف التعاون معها إن نقلت خبرًا واحدًا عن هذه المظاهرة.

اشتعلت النيران في النيش و اشتعل قلب هادي فرحًا لأنه استعاد إنسانيته و أدى واجبه تجاه ناسه و مجتمعه و لكن,

ألم يكن من الأفيد بدلا من حرق النيش, أن يحوله هادي إلى مكتبه 🙂

#بالعقل_نبدأ

 

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.

ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.

أحمد عثمان

باحث ومحاضر بفريق مشروعنا بالعقل نبدأ

مقالات ذات صلة