رياضة - مقالاتمقالات

الساحرة المستديرة.. ووهم البطولة الزائفة

دعني أبدّد لك قسطًا من غبش القراءة الذي قد يعوق سبيلك إلى مغزاها، إذ أعترف لك بدءًا، بأني مدينٌ في سكّ الجزء الأول من عنوان هذا المقال، للرياضي المصري الشهير لعبًا وتعليقًا، ميمي الشربيني، والاعتراف سيد الأدلة وفق الفقه القانوني، وهو دمغٌ أخلاقي يومئ إلى أمانة النقل ومصدر الاقتباس، مما يدعم عقد الثقة المبرم سلفًا بين الكاتب وقارئه.

الحقّ أنّي مذ حداثة سني، وجدّة رشدي، كنت أستعذب من الشربيني تعليقه الآسر على مباريات كرة القدم محليًا، ودوليًا، وبخاصةٍ حين تأخذه جلالة التعليق، فيحلق بك عاليًا في دنيا من متع البلاغة، وفتنة البيان، فترى الكرة انتقلت عبر أدوات البلاغة والمجاز، من معيارية التكوين جلدًا وهواءً، إلى “ساحرة مستديرة”. هذا التركيب الاستعاري الذي صاغه بعبقريته البلاغية ميمي الشربيني، ثمّ أصر على الإكثار منه حتى أضحى دالًا عليه دون سواه من المعلقين الآخرين، هو معنى ذو حيوية ودلال، لأنه لا يكشف واقعًا فحسب، وإنما يخلق كونًا من الجمال والخلابة والمتعة التي تقدمها كرة القدم للجمهور في العالم كلّه بكل عروقه، وتبايناته الثقافية، والعقدية، والأيديولوجية.

في هذا السياق يتجلى الشربيني جزءًا من بنية اللعبة الكروية، منخرطًا في صميمها، ومتناغمًا مع بقية مكوناتها المتضافرة في انسجام تامٍّ عبر علاقات واشجة تتضام لإنتاج الدلالة، وتمكين أثرها في الأنفس. والتعليق هنا ليس كاشفًا للأثر الجمالي الإمتاعي الناجم عن اللعب الفعلي فحسب، ولكنّه منشئٌ له من الأساس، من حيث هو خالق متعته الخاصة، وسحره المائز الذي يغوينا بالمشاهدة لمتعة الاستماع مع متعة مشاهدة اللعب مندغمين معًا دون مسافاتٍ فاصلةٍ.

التعليق الذي يقدمه الشربيني ليس محض نقلٍ لمجريات مباراةٍ في كرة القدم، وما هو مجرد وصفٍ محضٍ وموضوعيٍّ، وإنّما هو في جوهره الدال صناعة خيال جمالي، أو تخييل بلاغي يعرج بك إلى علياء من الفن، ودنيا من الجمال، وعالم من الإبداع الخالص الذي يضفي على اللعبة غلالةً شفيفةً من الغواية، والسحر، والروعة، والزخرفة، كأنّه يخلقها خلقًا آخر فوق خلقها الواقعي على أرض الملعب، وبين أرجل اللاعبين.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

إنّ سرًّا من أسرار الافتتان بما قدمه الشربيني، يرجع إلى قصده –عمدًا– إلى النزوع بك إلى أسطرة المباراة، والدخول بها إلى فضاء البطولات، وتخوم الملاحم بظلالها الصراعية والعجائبية الساحرة. ولعلّ هذا ما جعل محمد لطيف –رحمه الله تعالى– وعصام الشوالي، وقلة نادرة غيرهما يفضلون على بقية المعلقين، وكثير من الناس يسألون عنهم بشغفٍ عند المباريات، ويسعدون بتعليقهم لما يعبأ به من حمولاتٍ ثقافية، ومعرفية، وجمالية، وبلاغية لها بالغ الأثر في خلق عالمٍ موازٍ لمضمار المبارة على أرض الملعب.

تأسيسًا عليه، نسعى حثيثًا لمقاربة ظاهرة كرة القدم (الساحرة المستديرة) عبر مسلكين، وذلك على نحو ما يرد:

أولًا: “الساحرة المستديرة” ظاهرةٌ كوكبيةٌ وجماليةٌ

281791 16459882456857263 - الساحرة المستديرة.. ووهم البطولة الزائفة

تقودنا التوطئة السالفة إلى صميم موضوعنا هنا، وهو كرة القدم أو “الساحرة المستديرة” وفق مصطلح الشربيني بمتخماته البلاغية والمجازية.

الحقّ الذي أرتئيه في شأن الكرة أنّه ينبغي أن ينظر إليها على أنها إحدى ظواهر الوجود الجديرة بالرصد والتأمل. هي ظاهرةٌ عالمية وعولمية، لأنها تعمّ الكوكب كلّه، والشعوب كافةً، وهي موحدة في أطرها، وقوانينها، وشرائعها، وإجراءاتها، إلخ.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

إنّها ظاهرةٌ، نظرًا لأثرها الطاغي على الجماهير بكافة صنوفهم، وفئاتهم، وأعمارهم، ولما تناله من اكتراث واحتفال يصلان حدّ التهوّس والجنون. من هنا يمكننا أن ندرك بعمقٍ فحوى بلاغة الشربيني الذي شاء بفطرته الجمالية المائزة والمذهلة، أن يخلق منها “سحرًا”. والسحر في حقيقته صرفٌ عن الشيء أو الحال، وإظهار الأمر على غير حقيقته، بل هو خطفٌ وخفةٌ، وإبهارٌ، وإدهاشٌ. وفي المعجم أن “السحر: البيان في فطنة. وأصل السحر صرف الشيء عن حقيقته إلى غيره، كأن الساحر لما رأى الباطل في صورة الحق وخيل الشيء على غير حقيقته قد سحر الشيء عن وجهه أي صرفه”.

هنا يمكننا أن نتأول ظاهرة “كرة القدم” على أنّها علامة سيميائية وراءها ما وراءها من الدلالات المورّاة. ولعلّ أول التأويل يقودنا إلى الربط بين لعبة كرة القدم والتسلية، أو المتعة والترفيه. إن اللعب وفق تصور سبنسر “أصل الفن وأنّه تعبير عشوائي عما يطلق عليه بالطاقة الزائدة”، هنا لك أن تمعن في التأويل فترى الساحرة المستديرة نصًّا لغويًا ذا بيانٍ، حين تتجلى في خيال المعلقين من أمثال ميمي الشربيني شعرًا هو آيةٌ في الإفصاح والإبانة. قال النبي صلّى الله عليه وسلّم، ذات يومٍ حين سمع شعرًا جميلًا: “إنّ من البيان لسحرًا…”.

إنّه ليمكننا النظر إلى المبارة على أنها قصيدة شعرٍ متكاملة الأركان لفظًا، ومعنًى، ومفعمة بمعطيات السحر اللغوي. والبيان في قوته التأثيرية حالة سكرٍ بالمعنى. قالت العرب قديمًا: “فصاحة المنطق سحر الألباب”، ولك في هذا الشأن أن تتأمل في تؤدةٍ من أمرك، هذه الأبيات لأبي العلاء المعري، حتى تدرك سحر البيان، وأثر المعاني في إسكار المتلقي بها، يقول:

لفظٌ كأنّ معاني السّكر تسكنه             فمن تحفّظ بيتًا منه لم يفق

صبّحتني منه كاساتٍ غنيت بها            حتى المنيّة عن قيلٍ ومغتبق

اضغط على الاعلان لو أعجبك

جزلٌ يشجّع من وافى له أذنًا               فهو الدواء لداء الجبن والقلق

إذا ترنّم شادٍ لليراع به                        لاقى المنايا بلا خوفٍ ولا فرق

على أننا لا ينبغي لنا أن نغفل عن دلالة التأنيث في الكرة وفي الساحرة المستديرة. والأنثوية تغري بالغواية والمغامرة، وتجلل المشاعر بالمراهنة والخطر، وفرط الانفعال واحتدام الحمية. والسحر ينفذ في خفاء إلى الأفئدة والعقول، ويسكن طويات الأهواء ويتغلغل في النوازع. والساحرة المستديرة علامة أنثوية ماتعة ومراوغة في دلالها وتفلتها، كأنها امرأة فاتنة بجمالها، مدلّة بدلالها.

من هنا نفهم تركيبًا لغويًا آخر، وهو قولهم: “كرة القدم معشوقة الجماهير”، والعشق يقود إلى الانتماء والتوحد، كما قد يقود إلى المغالاة والجنون، وبه تتحول كرة القدم عند بعض القوم إلى مسألة حياةٍ أو موتٍ، بل هي عند ثلةٍ أخرى أكبر من هذا كلّه، إذ تتجلى لهم الحياة بلا كرة قدمٍ عبثًا وعدمًا.

ثمة نظمٌ بلاغي آخر يكشف لنا عن وجهٍ من أوجه جماليات كرة القدم، وهو قولهم: “كرة القدم هي الأوبرا التي يعزفها الناس جميعًا”. والنظم البلاغي هنا كاشفٌ عن العموم والشيوع عالميًا، لكنّه كاشفٌ أيضًا عن جمالية العمل الجماعي موسيقيًّا، عن طريق تضافر العازفين في سيمفونية أوبرالية تتناغم فيها الأنامل والأوتار، والآلات والأصوات، لحنًا وغناءً. إن الدلالة الأبرز هي توليد الجمال منسجمًا ومتوحدًا في كلّه الدال على نسبه إلى مجموع أجزائه.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

غير أنّ واحدةً من الدلالات الأكثر بذخًا واستفزازًا في الساحرة المستديرة، هي الأبعاد المالية والاقتصادية في كرة القدم. إنّ لنا أن نقرأ الظاهرة على أنّها صناعة ذات رواجٍ لا نظير له، بل هي صناعة الفتنة التي دمرت كافة القيم الاقتصادية والمجتمعية المستقرة في الأمم والشعوب.

لقد تجاوز الأمر شأن اللعب، وحدود المتعة، وتخطّى أفق التسلية والترويح، إلى حسابات الربح والخسارة، وأصبح إنسان اللحظة الراهنة في حيرةٍ من أمره إزاء فجاءة المنطق المالي المستفز الذي يحكم سلوك اللاعبين، والمدربين، والأندية، وشركات الرعاية، وقنوات التلفزة، والمحللين الرياضيين، وغيرهم ممن له علاقة مباشرة أو غير مباشرة بالحقل الرياضي الكروي. إنك لتدهش أشد الدهش وأعجبه مما يتقاضاه ميسي أو كريستيانو رونالدو أجرًا على إعلانٍ يستغرق الثواني المعدودات من الزمن، أو ما يقبضه من راتبٍ أسبوعي، أو مكافآت فوز وخلافه، مما يأخذونه غير محسودين أو محقودٍ عليهم.

لقد كسر المسلك المالي للساحرة المستديرة أفق الانتظار الذي تبلور عبر الأزمنة الطوال، ودمّر منطق الصناعة وبقية الأشياء، وبدد وضاءة القيم الراسخة، وهتك قداسة التعليم والعلم والعلماء، وقفز على مجد القادة والرؤساء… ليخلق لنفسه منطقه الخاص، وفضاءه المستقل، وعولمته الجارفة للحصون والقلاع العتيدة والتليدة. من هذا الأسّ تحديدًا، تحولت الساحرة المستديرة إلى حقل اشتهاء، ونزعت إليها القلوب والأفئدة، وصار لاعبوها قبلة الشباب، ومهوى الآباء والأمهات، يحلمون لأبنائهم بمستقبل كروي يفكك ماليًا طلاسم المسبغة والفاقة، ويجعل منهم قدوةً يتوق إليها الصغار والكبار معًا إلّا من رحم ربّي!

من حافةٍ أخرى تقودنا سميأة الساحرة المستديرة إلى مائز فضائها الدلالي بتشعباته وتناقضاته، إذ هي فضاءٌ كاشفٌ عن حالة الشعب أو الأمة، لأن الرياضة عامةً تمثّل مرآةً تنعكس عليها حالة المجتمع من الترف والفاقة، ومن الصحة والاعتلال، ومن سواء النفس أو اختلالها، ومن سمو الأخلاق أو تدنيها، كما هي فضاءٌ للفردية والجماعية في آنٍ، وللسيولة والجمود، وللمنطق واللا منطق، وللحساب والمفاجأة، وللكر والفر، وللفرص المحققة والضائعة، وللتخطيط والعشوائية، وهي فضاءٌ خصبٌ لتجليات الإرادة والعزم والتصميم، والبطولة، والبذل والغاية والتخطيط، والمغامرة والروح القتالية والتحدي، والروح الوطنية والرياضية، كما هي فضاءٌ ثرٌّ للتسامح الذي يتجلى في تقبل النتائج، وتهنئة الخاسر للكاسب على نحوٍ من السمو والرفعة الأخلاقية وإن كانت غير دائمةٍ.

اقرأ أيضاً: ميسي ورونالدو

اقرأ أيضاً: صراع تاريخي ترجم إلى ساحة منافسة رياضية

ثانيًا: وهم البطولة الزائفة

messi lewandowski ronaldo 1024x576 - الساحرة المستديرة.. ووهم البطولة الزائفةلعلنا في فيضٍ من وضوح الدلالة يعفينا من تأكيد المؤكّد من شأن أهمية كرة القدم بوصفها لعبًا. واللعب في تصور فرانك بارون “مصدر سرور، ومصدر غريزي يساعد على طرح التوترات، هو نوعٌ من التمرين الاستعدادي الفعّال لنمو الخبرة”، إن “سيكولوجية اللعب” التي جلّتها نظريات علم النفس على نحو ما قدمته “سوزانا ميلر” في كتابها الموسوم بالتركيب المشار إليه سلفًا: “سيكولوجية اللعب”، تؤكد أهمية اللعب بوصفه نشاطًا يتغيا المتعة، وخفض الإكراهات، والتوترات، ونسف الضغوط، وتلاشي الألم.

اللعب بصنوفه المختلفة، مضمار غواية تفضي بك إلى مفارقة الوعي المأزوم إلى الاستغراق في متاهة من النسيان المتعمد، استعذابًا للذاذته، وتجاوبًا مع دغدغاته للأعصاب الفائرة كدغدغة صمت العصافير على الشجر برؤية السيّاب الشعرية الحالمة في “أنشودة المطر” الخالدة.

غير أنّ المهم في شأننا هذا، هو الوعي بالساحرة المستديرة على أنّها لعبة شعبويةٌ ممارسةً، ومشاهدةً، وتشجيعًا. وهذا كلام مغزاه مقاربة وعي المشجعين، وسبر رؤاهم وانفعالاتهم. إننا نقترب رويدًا رويدًا من “سيكولوجية الجماهير”، ذلك التركيب الذي سكّه غوستان لوبون عنوانًا لكتابه الخالد. والشأن الذي نكترث به هنا ما أسماه لوبون بقانون “الوحدة العقلية للجماهير“. والشعبوية أو الجماهير عادةً ما تتلاشى فيها ملكات العقلانية، ومهارة التحليل والنقد، ويقظة الوعي، لأنها غالبًا ما تكون مشحونة بطاقة انفعالية قوامها الهياج والعواطف المتأججة، والشعارات العنيفة، والأوهام المتحكمة. لقد أكّد لوبون أنّ “الشعوب تتجه نحو الأوهام كما تتجه الحشرة نحو الضوء، فمن يعرف إيهام الجماهير يصبح سيدًا لهم، ومن يحاول قشع الأوهام عنهم يصبح ضحيةً لهم”.

هذا الذي نوحي به إليك على مهلٍ، يبيّن وهم الحقيقة المدّعاة في الساحرة المستديرة من شأن البطولة، لأنها على الواقع بطولة زائفة في مردودها الفعلي بالنسبة إلى الجماهير المنخرطة في حلبة السجال، وضرام الخلاف تأييدًا وتشجيعًا. وخصيصة الوهم هذه، هي التي تفسّر لك الاهتمام المبالغ فيه من النّظم السياسية في العالم كلّه، لدفع الجماهير دفعًا نحو بطولات كرة القدم، وإغوائهم بسحرها، وإسكارهم بخلابتها التي تنتهي بهم في نهاية المطاف إلى لا شيء، إذ يخرجون من الشأن كلّه صفر اليدين.

إنه تعمد الفعل السياسي مفاقمة إلهاء الجماهير، وقصد إزاحتهم عن قضايا واقعهم المزمنة، وتنويمهم مغناطيسيًا في دنيا من زيف البطولة، وألق النّصر المتوهم. والحقّ أنّ شأن الغواية في الساحرة المستديرة ليس مقصورًا على الساسة في النّظم الحاكمة في العالم، وإنّما ممتدٌ إلى شركات الدعاية، وقنوات التلفزة، والماركات التجارية، وغيرها كثير مما له علاقة بالشأن التجاري، والربح المالي الذي لا يقاوم.

في هذا السياق، يبدو دقيقًا تفريقنا بين استجابة الجماهير ببلاغاتها المختلفة وفقًا لمصطلح صديقي المتميز أ.د/ عماد عبد اللطيف، في الشعوب والدول الحرة والمتقدمة، وبين استجابتها في العالم الثالث وبخاصةٍ في دنيا العروبة. وهنا تقتضي الدقة المحكمة بمعايير التفكير الناقد، أن نصنّف الجماهير العربية إلى الفئات الآتية:

‌أ. المشتغلون بالساحرة المستديرة

نقصد بهم اللاعبين، والمدربين، والحكام، والأندية، والاتحادات، وقنوات التلفزة الرياضية، والمحللين الرياضيين، وشركات الدعاية التجارية، وكل من له صلة مباشرة أو غير مباشرة بكرة القدم عملًا وارتزاقًا.

هذه الطائفة من الناس لا تثريب عليهم فيما يفعلون تماهيًا، وانخراطًا في كل شأن من شؤون كرة القدم. وهم على حقٍّ، بل هم على الحقّ كلّه، لأنّ جدهم لعبٌ، ولعبهم جدٌّ. إنهم يعملون لعبًا، ويلعبون عملًا، فاللعب هنا مهنة، وسبيل اعتياش، ومداد رزقٍ، وقوام حياة لهم، ولأسرهم، ناهيك عن التسلية، والمتعة، والترفيه في آنٍ.

‌ب. الدهماء والسوقة

 

جمهور مشاهدة مبارة كرة قدم 780x470 1 - الساحرة المستديرة.. ووهم البطولة الزائفةأولئكم الذين تدنت حصيلتهم العلمية، وأرصدتهم الثقافية والحضارية، وتقهقرت مواقعهم الاجتماعية، ويملؤهم فراغ كبير، وطاقة تميل بهم إلى العبث والنّزق.

هذه الفئة من الجماهير فريسة سهلة للاستهواء الذي يبعث على تصديق كلّ شيءٍ، وصيد يسير للأوهام والخرافات، لذلك تراهم أكثر الناس تعلقًا بالسير الشعبية، وتعشقًا لبطولات أبي زيد الهلالي، وأدهم الشرقاوي، والمهلهل بن ربيعة، وهلمّ جرًّا.

لو أنّك شئت النّصفة لهؤلاء القوم لعذرتهم، لأنّ غرائزهم الإنسانية تحملهم حملًا على الشغف بالبطولة، وتغويهم بلذة الفوز والنصر. وهذا، أو ذاك لا يتحقق لهم في واقع حياتهم على مستوياتها المختلفة المترعة بالهزيمة الحضارية، فليس أمامهم إلّا التشبث بوهم بطولة زائفة يظنون أنهم شركاء في صنعها بسبب استجاباتهم تشجيعًا بالتصفيق والتهليل، إنّه نصرٌ افتراضي تتوهمه الذات الممزقة في دنيا العبث والعذاب الواقعيين في بحر الحياة متلاطم الأنواء والأمواج، كي تستنوم حمم الغرائز، وتطفئ ضرام المسبغة.

اقرأ أيضاً: الكرة ونشل الوعي

اقرأ أيضاً: الرياضة والقوة الناعمة

‌ج.  النخبة الاستثنائية

الفئة التي تمثّل قاطرة المجتمع، وتسعى جاهدةً إلى بناء نهضته، وتبني قضاياه الكيانية والجوهرية. وهي نخبة استثنائية من عموم المجتمع، يفترض فيها عمق الثقافة، وسعة المعرفة، ورقي الأخلاق، ورحابة الصدر، واتساع الأفق، وذلك على نحو ما يتجسد في قادة الفكر والرأي، والقضاة، والباحثين، وأساتذة الجامعات، والكتاب، والمثقفين، وغيرهم ممن ينطبق عليه عيار التصنيف.

غير أنّ هذه الفئة تحديدًا في عالمنا العربي هي مربط الفرس، وموطن المؤاخذة في شأن زيف البطولة ووهم الفوز والانتصار. وإنّك ليملكك عجبٌ عجابٌ حين ترى بعض هؤلاء القوم يسرفون في التشجيع، ويبذّرون في التحدي، ويفرطون في العداء والخصام، ويبالغون في الأفراح حال الفوز، وفي الأتراح وقت الهزيمة.

لعلّك لو رأيتهم على حالهم هذه دون معرفةٍ دقيقةٍ وبصيرةٍ بواقعهم الأليم، لظننت أنهم يمارسون ترفًا من فائض النعمة التي يرفلون فيها، وهم ليسوا كذلك، فتدرك وقتئذ أن القوم الاستثنائيين ليسوا باستثنائيين، وأنّ شأنهم في زيف البطولة وامتلاء النصر شأن من سبقهم في التصنيف، بل العاقل الرشيد يأخذه وخزٌ أليمٌ على ما يراه من فرط اهتبالهم، وبذخ اندفاعهم إلى وهدة هذه السفاسف الهازلة التي يجدّون فيها أشدّ الجدّ وأعظمه، فيما يهزلون في أعمالهم.

حدث ذات مرةٍ قبل أكثر من ثلاثين عامًا وقت أن كنت وصديقي الأعز أ.د/ وجيه يعقوب معيدين في كلية الألسن، وقد حملتنا أقدامنا مصادفةً على أن نسلّم على زميلٍ فاضلٍ نكّن له مودةً خالصةً واحترامًا كبيرًا، وهو يكبرنا سنًّا وعلمًا ورتبةً، ثمّ أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا، لنأتي على ذكر الأهلي والزمالك، وكنّا نظنه أهلويًا مثل كثيرٍ من الناس، ونحن في صميمنا لسنا مكترثين كثيرًا بهذا أو ذاك لوعينا بثانوية الأمر كلّه، فإذ بنا نراه ينتفض برمًا، ثائرًا، محتجًا، مؤكدًا أنه زملكاويٌّ، وهذا حقّه الذي لا ينبغي لأحدٍ أن ينازعه فيه أو عليه، لكنّ المفاجأة الساخرة كانت في تعليل ذلك الانتماء، إذ رأيناه يرده بتعالٍ وفوقيةٍ لأبعادٍ عنصريةٍ، ترجع به إلى عوامل أنثروبولوجية!

لقد سادني وزميلي الوادع –حينئذٍ– صمتٌ مفعمٌ بسخريةٍ مكتومةٍ ما كان لنا أن نبديها طوعًا أو كرهًا، وتخللته نظرات استهجان بيني وبينه، إذ لا طاقة لنا على الدخول في حومة منازلة من هذا القبيل، ثمّ انصرفنا في أسفٍ ينطوي على لوعةٍ، بل على حسراتٍ جراء ما آلت إليه شؤوننا العربية. لقد خرجنا من هذا الموقف الذي ألمّ بنا على غير ترتيبٍ منّا ونحن نتمتم في صدورنا خفيةً بقول أبي الطيب:

ومراد النّفوس أصغر من أن          نتعادى فيه وأن نتفانى

غير أنّ الفتى يلاقي المنايا         كالحاتٍ ولا يلاقي الهوانا

إنّ انكشاف هذا الواقع النخبوي، هو الذي يفسّر لنا تلك المهاترات التي تتكرر بين جماهير مصر وشمال إفريقيا دائمًا، وبين مصر وشقيقتنا السودان على نحو ما تجلّى مخزيًا في مباراة الأهلى والهلال أخيرًا، وغيره كثير بين الدول العربية الشقيقة. هذا ما ينبغي أن نأسى له، ونشفق على أنفسنا منه، لأننا وإن كان حقًّا لنا أن نلعب كرة القدم، وأن نلتذ بالساحرة المستديرة ممارسةً، ومشاهدةً، فليكن هذا في إطار أنها محض لعبةٍ نروّح بها عن ذواتنا المكلومة، ولا ينبغي أن نتجاوز ذلك إلى ما عداه من المشاحنات والإحن، أو البحث عبثًا عن بطولات زائفة نتوهمها حقًّا وواقعًا، وما هي بحقٍّ ولا واقعٍ. أقول ذلك وأخشى أن أكون كعمرو بن معدي كرب، إذ يقول:

لقد أسمعت لو ناديت حيًّا           ولكن لا حياة لمن تنادي

ولو نارٌ نفخت بها أضاءت              ولكن أنت تنفخ في رماد

أو لعلني كأبي العلاء المعري حين ندّت عنه ومضة سخريةٍ لاذعة من جهالة الناس وفرط استهوائهم، كما في قوله الذي أختم به:

لقد صدّق الناس ما الألباب تبطله          حتى لظنوا عجوزًا تحلب القمرا

اقرأ أيضاً: هل نستطيع خلط الرياضة بالسياسة؟

اقرأ أيضاً: كرة القدم وما تشكله لنا من أهمية

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ.د. عبد الرحمن عبد السلام محمود

أستاذ النقد الأدبي الحديث بكلية الألسن جامعة عين شمس وكلية أحمد بن محمد

مقالات ذات صلة