فن وأدب - مقالاتمقالات

حال البشر ومآلهم

بعد سنوات قليلة من إصرار عالم المصريات محسن لطفي السيد على أن يعيد طباعة “كتاب الموتى”، وهو واحد من أهم الآداب الفرعونية، تحت عنوان جديد أسماه “الخروج إلى النهار”، تأتي نجلاء علام لتستعيره كي يكون عنوان رواية لها، استفادت فيها من عطاء “الجيبتانا”، وهي سفر التكوين عند قدماء المصريين، فيما حاولت الكاتبة أن تعيد وضع حال الإنسان الحالي، ذكرًا وأنثى، في صورة نشأته الأولى من رحم “الألم واللذة”، ثم تأخذ خط الحياة على امتداه، لتطوي تاريخ البشر كله، أو هكذا تتصور.

لهذا لم يكن مستغربًا أن يكون مفتتح الرواية، الصادرة عن دار الأدهم في 105 صفحات، مقتبسًا من السطر الثامن والعشرين من كتاب الموتى: “بسلام إلى حقول الجنة من أجل أن يعرف”، وأن يكون مشهدها الأول عن الطريقة التي خلق بها العالم، وتبنت فيها مزجًا بين نظرية انفجار الكون في زمن سحيق وبين ما أمدتنا به الكتب السماوية، لا سيما التوارة والقرآن، عن خلق الإنسان: “كرة مثقلة بالغازات، انفجار هائل يجعل كل جزء يجري إلى مدار، كون استقر بعد عراك، وبدأ يرى نفسه نجومًا وكواكب وأجرامًا، أقمارًا وشهبًا ونيازك تجمعها مجرات، والآن بعد الانفجار نشأت جاذبية، جعلت كلًا منها يدور في فلكه دون أن يلتصق بأخيه أو يفلت إلى أعماق سحيقة، وجاء الإنسان”.

وبذا تفتح الرواية بابًا فلسفيًا لفهم مسار البشر في تاريخهم الطويل، بطريقة مختلفة عن تلك السائدة والمألوفة التي حفلت بها كتب الأنثربولوجيا والآثار والتاريخ والاجتماع، بما يبرهن في خاتمة المطاف على أن الإنسان في حاجة ماسة إلى مراجعة كل ما يعرفه عن نفسه باعتباره “حيوان له تاريخ”، حتى يكون بوسعه أن يرى مستقبله بعين بصيرة، شريطة الإيمان بأن المحبة والتسامح هما القيمتان اللتان نفتقدهما وسط الظلم والكراهية والقهر.

تنتقل بنا الرواية من عالم بسيط رائق مع بداية الخلق، إذ تقول على لسان “آدم” أبي البشر: “بين جدول صغير وعدة شجيرات أجلس، أرى أولادي يلعبون، وامرأتي تجلس أمام النار تنتظر نضوج الطعام” إلى عالم بشع، يفتقد إلى التعاطف الإنساني، تأسس منذ الجريمة الأولى حين قتل “قابيل” أخاه “هابيل” فأصبح نسلهما “أولاد غصب لا رضا” و”أولاد سفاح”، حسب نص الرواية، وهو ما يعبر عنه القاتل وهو يحكي عن أول مرة جامع فيها زوجته التي كانت من حق أخيه المقتول: “لم تمكنني من نفسها أبدًا، إلا بعد عراك طويل يدمي جسدي وجسدها، وأستوحش لآخذها، وتلين بعد جهد، فيكون اللقاء، تهذي حينها: لماذا رهنت متعتي بالألم؟ أقوم من عليها وأنا أرتجف وأصرخ: أأكون قد كتبت على ذريتي التعاسة؟ وتنتفض الكلمة نارًا تحرقني (لم؟) فيعلو صوتي، وينفتح جرحي، وأبنائي من حولي يكبرون ويتكاثرون، يقبلون ويدبرون، يتغيرون وتختلف ألسنتهم وسحنهم، ولا أحد فيهم يواسي شيخًا عجوزًا، يقف وحده يعاتب مقتوله”.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لكن الرواية تنقل تعاسة الإنسان فجأة من الجريمة الأولى في تاريخ الإنسانية إلى زمن “الآلة” و”الأتمتة” لكل شيء، حيث التوحش والتفاوت الطبقي الرهيب، والاغتراب القاسي، وهنا تقول الرواية على لسان بطلها: “لقد حرّموا علينا المشاعر والعلاقات الجسدية وغيرها من الأمور التي تنحو في النهاية إلى عدم الموضوعية في الحكم على الأشياء والبشر، وها هم في النهاية يحكمون علينا بنفس الأشياء التي حرموها”.

وتجسد الكاتبة هذه الرؤية الفلسفية في رجل وامرأة انحبسا تحت الأنقاض إثر انهيار أرضي، يلفهما ظلام دامس، ويجلسان القرفصاء، ويبقيان على قيد الحياة بفعل قدر من الطعام والشراب يلقى إليهما من حين إلى آخر. إنها صورة للسجن الدائم الذي أصبح الإنسان يعيش فيه، بعد أن تشيأ كل شيء وغابت الحرية، وسط القهر والجوع والصراع الضاري على حيازة الثروة والقوة والمكانة والجاه.

ولا تقف الرواية، وهي الثانية لكاتبتها إلى جانب مجموعتين قصصتين وأربعة كتب للأطفال، عند هذا الحد بل تقفز إلى المستقبل، إذ يفقد الإنسان تمامًا الأشياء التي كانت تمنحه المتعة والاختيار، وسيصبح البشر مجرد أرقام، كالسجناء، ليس لهم أسماء، وسيتحدثون لغة قاصرة أسمتها “الفصّلا” في مجتمع أسمته “الهونا”، وسيصير كل ما نعرفه الآن مجرد تراث قديم مهمل، وهنا يتساءل البطل: “لماذا يخبئون الكتب؟” فيأتيه الرد: “حتى لا نصاب بالتشويش، فهي تحتوي شيئًا مختلفًا عما حفظ داخل الشريحة المعلوماتية الموضوعة في مخ كل واحد منا”.

لم تترك الكاتبة بطل روايتها وبطلتها في هذا السجن الغريب، بل تحررهما، عبر الخيال والثورة. ففي الخيال، يحلم البطل بالطيران، وحين يقال له إنه بلا أجنحة، يرد على محدثه: “سينبتان، أطلق لخيالك العنان، طهر قلبك، اسمو بروحك، ارتفع، ارتفع”، ويعول في هذا على الإرادة: “الطيران ليس جناحين وكفى، بل إنه تدريب للنفس ومحاولة اكتشافها وكلما وجدت داخلك شيئًا جديدًا جميلًا، علوت وسموت، وربما ننصبك في النهاية ملكًا للطيور”.

أما الثورة فتنقلنا الرواية فجأة إلى تونس ومنها إلى مصر، وتستعرض مشاهد متناثرة من الاحتجاجات التي شهدتها البلدان، وتجعل من بطليها جزءًا من هذا الحدث، إذ يختلطان بالثوار، ويتحرران من كل القيود، بل إنها تجعل في التمرد حلًا لمشكلة الإنسان المسجون منذ بدء الخليقة، بإطلاق اسمي أبي البشر وأمهم على شابين من الثوار: “كنا نرغب في ميلاد جديد، وقد جاء، لففنا آدم وحواء بقماش أبيض يكسوه العلم، صعدنا تحت إلحاح الجموع إلى أعلى منصة في الميدان، قالوا إنهما التجسيد الحي للانتصار، ويجب أن تراهما الأرض كلها، وعندما وصلنا رفعناها وسط هدير البشر، وانطلقت الاحتفالات”. لكن الكاتبة لم تشأ أن تترك مصير الإنسان لهذا الفرح النهائي، الذي ناله بالتمرد على المألوف عبر الخيال والاحتجاج، فالأحزان والخوف لا يمكنهما الذهاب بعيدًا، ولهذا تنهي روايتها بتلك الجملة التي تعقب مشهد رفع الشاب والفتاة وسط الثوار: “لكن كان هناك غراب أسطوري يحلق في السماء”.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لم يمنح زمن الرواية الطويل وعمقها الفكري كاتبتها فرصة لتوسيع نطاق ما كتبت على مستوى السرد والحوار والبناء، باعتبار الرواية فن يحتفي بالتفاصيل، وهذه إحدى الخصائص التي تميزه عن فن القصة القصيرة، إلا أنها أظهرت في المقابل قدرة كبيرة على التكثيف الذي جعل الرواية لا تخلو من تعقيد وغموض، وسط احتفاء بالمراوحة بين القصة والرواية، والنثر والشعر.

اقرأ أيضاً: 

ولادة الفيلسوف العربي

رواية “عشرة طاولة”

ميكيافيللي .. ماذا قدم للبشرية في كتاب الأمير؟

اضغط على الاعلان لو أعجبك

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

اضغط على الاعلان لو أعجبك

د. عمار علي حسن

روائي ومفكر مصري

مقالات ذات صلة