مقالات

التجربة الجمالية وأخلاقيات الممارسة الكيميائية .. الجزء التاسع

يبقى أخيرًا العامل الثقافي بوصفه العامل الأشد خطورة من عوامل التصاعد اللا محسوب للتطبيقات الصناعية، سواء على المستوى الكيميائي، أو على أي مستوى آخر للعلم التطبيقي. وأعني بالعامل الثقافي هنا: غيبة الوعي الجمالي بالطبيعة من جهة، وتراجع الشعور الديني بصفة عامة من جهة أخرى، فمن الجهة الأولى صاحبت التوسعات الصناعية والتكنولوجية المتواصلة تغييرات عنيفة في البنية الأساسية للطبيعة: غاباتها، أرباضها البرية، أنماط مناظرها الجميلة على تعددها وتنوع أشكالها، وهي تغييرات فرضتها الثورة العلمية التطبيقية بما تستلزمه من فرطٍ للتركيز الحضري، وتكثيف لأعمال البناء السكني، فضلًا عن إنشاء المجمعات الصناعية الضخمة، وردم الوديان النهرية الكبرى، وتجفيف مناطق المستنقعات، والاستنزاف الصارخ لأشجار الغابات، إلخ. وأبسط ما توصف به هذه التغييرات أنها اعتداءٌ بشع على الطبيعة، تتراجع بمقتضاه في صمت وعلى طرفي قدميها، فمع كل اندفاعة في نشاطنا الصناعي المحموم تموت حفنة من الطبيعة إلى غير رجعة، ومع ضجيج ماكيناتنا تفنى أعدادًا كبيرة من الأنواع النباتية والحيوانية دون أن نسمع أو نعي اعتراضاتها، الأمر الذي يؤدي إلى تراجع الرصيد الجيني العالمي وتراكم المستحقات البيئية التي سيُطالب الإنسان بدفعها، ولو بعد حين!

النتيجة اللازمة عن ذلك تغير المنظور الثقافي للإنسان، بحيث بات يتأقلم مع القبح الصناعي رويدًا رويدًا، ويألف الصورة الجديدة المشوَّهة للطبيعة، التي تعكس بالضرورة وعيًا جماليًا وأخلاقيًا مُشوَهًا ومأسورًا برفاه مادي زائف. وبعبارة أخرى، أدى سجن الإنسان المعاصر في كهف التطبيق العلمي التكنولوجي الأعمى إلى نشوء ما يمكن أن ندعوه بالتلوث الثقافي، بحيث أصبح الإنسان فاقدًا للقدرة على التمييز بين الأخلاقي واللا أخلاقي، بين متطلبات الخير ودواعي الشر، أو على الإجمال بين حاجات الروح وإسرافات الجسد.

من جهة أخرى، ورغم ما حققه العلم وتطبيقاته التكنولوجية من نجاح في تطوير مناحي الحياة المادية المختلفة، فالخواء الروحي الذي خلفه هذا النجاح انعكس مباشرة على لغة الخطاب الديني بما لها من تأثير زاخم على لغة الخطاب الأخلاقي بأنماطها المتباينة. لقد غدت هذه اللغة أكثر وثوقًا بالعلم وتنظيماته منها بالإله الخالق وشرائعه، وعمدت إلى اختزال الإنسان بكل تعقيداته وموروثاته العقلية والوجدانية في بُعدٍ واحدٍ فقط هو بُعد الإنسان الصانع والمستهلك والمطوّر لصنائعه، دون أن تلقي بالًا لأبعاد أخرى يُنذر تجاهلها بالعودة بالحضارة إلى عصور بدائية خلت.

هكذا نجد غلاة العقلانيين وقد مضوا في غيهم وفي أحادية نظرتهم، يعلنون أن الدين ظاهرة لا عقلانية، مآلها إلى الاندثار حتمًا في مجتمع من حق العلم والعقل فيه أن يفخرا بانتصارهما وقدرتهما على الحسم. وبعبارة أخرى، أصبح الإنسان –وفقًا لمنطق العقل والعلم والتكنولوجيا الجسورة– كائنًا يملك في غرور من حرية التصرف ما يتيح له أن يصنع آلهته كما يحلو له، فالحضارة التي صنعت الأقمار الصناعية والمركبات الفضائية والعقول الإلكترونية ليست في حاجة إلى آلهة! وتلك هي الطامة الكبرى التي انزلقت بحضارة العصر إلى خطايا بتنا نألفها انتظارًا لغدٍ ذهبي قادم: سياسة بلا مبادئ، وتجارة بلا أخلاق، وثروة بلا عمل، وتعليم بلا تربية، وعلم بلا ضمير، وعبادة بلا تضحية.

الحق أننا لا نطرح هذه العوامل والمسببات بزعم القدرة على وضع حلول لها أو قول شيء جديد تمامًا بشأن سبل التغلب عليها، وإنما بقصد توضيح قدر المسؤولية الملقاة على عاتق العلماء في عالم سريع التغير بفعل أبحاثهم وتطبيقاتها، فعلى الرغم من العيوب البشرية للعلماء، وتأثرهم –كأي جماعة أخرى– بمتغيرات عصرهم، فإنهم –بحكم تخصصاتهم، وبما اكتسبوا من عادات التساؤل، وتحدي المسلمات، والطرح الموضوعي للحقائق والآراء المتعارضة، إلخ– وحدهم القادرون على تقييم متضمنات اكتشافاتهم. ينسحب هذا على أشياء من قبيل إنتاج مواد كيميائية جديدة بهدف زيادة محاصيل المنتجات الزراعية، كما ينسحب بالمثل على إنتاج وتطوير الأسلحة غير التقليدية. إن العلماء فقط هم الذين يستطيعون التنبؤ بأخطار مثل الانفجار السكاني، أو الأخطار الكامنة في النفايات الذرية، بل وحتى الأخطار الكامنة في الاستخدام السلمي للذرة. لكن هل يملك العلماء معرفة كافية بهذا؟ هل هم على وعي حقيقي بمسؤولياتهم؟ لا شك أن بعضًا منهم هكذا، لكن البعض الآخر –وهم الكثرة الغالبة– يبدون على خلاف هذا. ربما كان بعضهم منشغلًا إلى أقصى درجة، وربما كان البعض الآخر غير مبالٍ تمامًا. الأمر المؤكد أن إمكانات التطبيقات قد أدارت الرؤوس، فلا يبدو أحد منشغلًا إلى الدرجة الكافية بعموم رجع الصدى لتقدمنا التكنولوجي المندفع، على حد تعبير كارل بوبر.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ما نود قوله إن قيام نسق أخلاقي للعلم وتطبيقاته لا بد أن ينبع من داخل العلماء أنفسهم، أفرادًا كانوا أو جماعات، فعلى عاتقهم تقع أولًا مسؤولية التأكيد على القيم والفضائل الخاصة بمهنتهم وبمجتمعهم العلمي، على نحوٍ أكثر جسارة مما فعلوه حتى الآن. ولن يتسنى ذلك إلا بنزولهم من أبراجهم البحثية العالية، بحيث لا يقتصر نشاطهم على إجراء الأبحاث وتطوير التقانة، وإنما يمتد الأمر إلى معايشة الآخرين خارج أسوار المعامل، كيما يدركوا ما يمكن أن يؤدي إليه الاستغلال غير الأخلاقي لنتاج فكرهم. وعلى عاتق العلماء تقع ثانيًا مسؤولية المشاركة في صياغة القرارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ذات الصلة المباشرة –أو غير المباشرة– بالعلم والتكنولوجيا، بالإضافة إلى مواصلة إسداء النصح وتشكيل جماعات الضغط المؤثرة على مراكز صنع القرار على كل من المستويين الوطني والدولي. وليس بخافٍ علينا ذلك الميل الفطري المتأصل، حتى بين أفضل المشتغلين بالبحث العلمي، نحو تحاشي الانخراط في القرارات الإدارية وغيرها، ومحاولة تجنب مسؤولية القرارات التي تُتَّخذ بقدر الإمكان، فكثيرون منهم يفضلون أن يكونوا مثل النعامة، أي يظلوا مستغرقين في إجراء البحوث في حد ذاتها، بحيث يكونون غير مدركين (في شكل إحساس غير علمي) لما يدور حولهم، حتى وإن كان يمس نشاطهم في الصميم. ومما لا شك فيه أنه قد آن الأوان لاعتراف المشتغلين بالبحث العلمي بهذه الغوايات وضرورة مقاومتها، لأن الاستسلام لها يؤدي إلى إضعاف مهنتهم، ويجعل الطريق مفتوحًا أمام من هم أقل علمًا ومعرفة لكي يكونوا مسؤولين عن قرارات قد لا يدركون عواقبها. وعلى عاتق العلماء تقع أخيرًا مسؤولية المشاركة في تربية النشء، وتوجيه شباب الباحثين الذين سيحملون لواء العلم من بعدهم، لا بتلقينهم الفضيلة نظريًا، فالفضيلة لا يمكن تعلمها مثلما نتعلم الرياضيات أو قواعد النحو مثلًا، وإنما بالممارسات ومعايشة أنماط السلوك المختلفة وتبيان نتائجها. إن تعلم الفضيلة –إن كان ثمة تعلم ممكن– يستلزم أولًا وقبل كل شيء معرفة ببواعث الفعل ومبرراته ونتائجه أو نمط السلوك، وفي إطار العلم لا بد أن تنطوي هذه المعرفة على صورة واضحة للقواعد والمعايير المختلفة وكيف تتصارع، تصحبها أنماط بارزة للسلوك الجيد ونقيضه داخل المعامل ومراكز البحث وخارجها.

بصفة عامة، ينبغي على العلماء التوفيق بين فطرتهم ونزعتهم السليمتين إلى عدم الانغماس في الحياة العامة، وبين نزعتهم التي لا تقل سلامة إلى تغليب مصلحة الإنسانية. إن الجماعة العلمية حينئذ يمكنها أن تقف باعثًا وحارسًا أمينًا لكثير من القيم والمعايير الأخلاقية التي نفتقدها الآن.

الخلاصة

من جماليات البحث الكيميائي وإبداعاته إلى قيمه الأخلاقية المتنازعة في دوامة التطبيقات الإنتاجية ونفاياتها، ومن رهافة المادة وطواعيتها بين أصابع الكيميائي الفنان إلى جمودها وتمردها على الإنسان والبيئة بين أيدي الساسة ورجال المال والاقتصاد، ومن أحلامٍ بثراء الحياة يزيدها العلم دومًا قوة ومصداقية إلى مخاوف متصاعدة مما يحمله الغد الآتي، تقف الكيمياء اليوم ومعها الإنسان في مفترق طرقٍ مصيرية غير واضحة المعالم، طرقٍ يستلزم السير في إحداها قرارًا جماعيًا صعبًا، وفكرًا راجحًا يُغلّف أنساقنا العلمية بقيم باتت تُستنزف منا كأبخرة المعامل، لتعمل كوقود لماكينات المصانع، أو بالأحرى كوقود لصراعاتنا اللا معقولة في عالم يتمحك بالعقلانية. وبعبارة أخرى، تقف الكيمياء اليوم –ومعها العلم بأكمله– أمام سؤال المستقبل، أمام قدرتها على الاختيار كسمة إنسانية مميزة، »فشأن اليافع وحيدًا إزاء مستقبله، وشأن آدم وحواء بعد أن كُشفت عورتهما، ها هو الإنسان من جديد عار ووحيد أمام الخيار الحاسم، مضطر إلى قهر إغراء اليُسر الذي يُفضي إلى دوامة الحتميات العارمة، والخيار الأساسي واضح: إما النظام المتعمد، المتبصر، الحازم، المقبول طوعًا، الذي يأتي وليد الخيال الإنساني والإرادة الإنسانية، وإما تنظيم الطبيعة العشوائية، الشرس، العنيف«.

نحن وإن كنا قد ألقينا بتبعة المحافظة على القيم الإنسانية، وبعث الفاني منها، على عاتق العلماء والباحثين، فما ذلك إلا لأنهم أقدر الناس على ذلك، إذ بين أيديهم تكمن أسرار العلم وإمكاناته، وهم بالإضافة إلى ما يملكونه من معارف، وما يُقيمونه من جسور للتواصل بين الإنسان وبيئته الطبيعية، يستطيعون بالمثل توجيه الدفة قليلًا لإقامة جسور للتعايش بين الإنسان وبني نوعه. هذا بالإضافة إلى كونهم أداة التنفيذ الأولى لسياسات قومية قد تكون قصيرة الأجل، وبإمكانهم –إن أرادوا– فرض قيمهم الجمالية والأخلاقية على هذه السياسات، لتصبح على المدى البعيد سياسات إنسانية بحق!

إن العلم يمكن أن يكون مصدرًا للخير، أو مصدرًا للشر في حياة الإنسان، والأمر المؤكد –والأول والأخير– أن جميع العلماء يتحملون نصيبًا من المسؤولية عن مستقبلنا.

مقالات ذات صلة:

الجزء الأول من المقال، الجزء الثاني من المقال، الجزء الثالث من المقال

الجزء الرابع من المقال، الجزء الخامس من المقال، الجزء السادس من المقال

الجزء السابع من المقال، الجزء الثامن من المقال

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية