مقالات

هل يمكن تفسير السلوك على أنه نتيجة لبرامج مخزنة بالمخ؟ .. الجزء الرابع

برامج السلوك: فكرة جديدة لتفسير السلوك - ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء

عرضنا في المقالة الأولى قرائن قد تتيح لنا أن نفرض إمكانية أن يكون السلوك راجعًا إلى تشغيل برامج في المخ تشبه برامج الكمبيوتر التي نعرفها، وعرضنا في المقالة الثانية بعض تطبيقات تفصيلية لهذه الفكرة على بعض أنواع السلوك الفردي والجماعي.

في المقالة الثالثة حاولنا النظر إلى بعض من أهم النظريات المعروفة في علم النفس من وجهة النظر الكمبيوترية، إذا جاز التعبير!

ما عرضناه في المقالات السابقة يجعلنا نفترض أن المخ حين يوجه السلوك يعمل كأنه مبَرمجٌ ببرامج تشبه برامج الكمبيوتر، وقلنا إن هذه البرامج يمكن تصور تقسيمها إلى:

  • البرامج التحليلية:التي تحلل كل شيء حتى نفسها.
  • البرامج الإشرافية:التي تشرف على السلوك وتصمم البرامج التنفيذية للسلوك.
  • البرامج التنفيذية: التي تنتج السلوك مباشرة.

قلنا إن الوعي لا يدرك شيئًا عن البرامج الإشرافية، بل يلاحظ فقط عمل البرامج التنفيذية، فالوعي واجهة العمل العقلي، ويشبه في هذا شاشة الكمبيوتر التي تظهر عليها نتائج عمل البرامج.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

في هذه المقالة سوف نطلق على منظور السلوك باعتباره مُخرَجًا (output) ناتجًا أساسًا من عمل البرامج الإشرافية اسم “المنظور الإشرافي”، وسوف نطلق على منظور السلوك كما نلاحظه بوعينا “المنظور الواعي”.

كما ذكرنا في السابق فإن الوعي غالبًا لا يفهم، بل لا يلاحظ وجود المنظور الإشرافي، وأرجو أن تنتهي هذه الصفحات إلى إقناع وعي قارئها بوجود ذلك المنظور الإشرافي!

تفترض فكرة المنظور الإشرافي وجود جزء راقٍ من العقل مستقل عن الوعي، يمثل –إذا صح التعبير– القيادة العليا للظاهرة الإنسانية ويعمل في اتجاه مصلحة الذات الإنسانية، وهو مبَرمج ببرامج لا حدود لتنوعها ومرونتها تتقبل معطيات الواقع، المباشرة منها والرمزية (input)، وتجهز المُخرَج (output) المناسب.

هذا المُخرَج يتشكل في صورته النهائية عبر الوعي، الذي ليس إلا أداة يهيمن عليها ذلك الجزء الراقي القيادي المستقل عن الوعي. ومن هذه الرؤية يوجد للسلوك منظوران:

المنظور الأول:

المنظور الواعي: المنظور المعتاد المألوف الذي يبرر السلوك ويصفه.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

المنظور الثاني:

منظور البرامج الإشرافية التي توجه السلوك (وسوف نطلق عليه كما ذكرنا “المنظور الإشرافي”): الذي يوضح أهداف البرامج من وراء السلوك، تلك الأهداف التي قد لا يفهمها الوعي أو حتى يدري بوجودها.

المنظور الإشرافي يدرك الواقع من نفس القنوات التي يستخدمها الوعي لإدراك الواقع، لكن كلًا منهما يفهم من الواقع ما يناسب قدراته التحليلية، فالمنظور الواعي يفهم الظواهر السطحية والمنظور الإشرافي يفهم التراكيب الرمزية المعقدة، كذلك فالمنظور الإشرافي يهيمن على المنظور الواعي، أي أنه يوجد فوقه قائدًا غير مرئي.

لكن لماذا نفترض وجود هذه القيادة العليا فوق المنظور الواعي؟

  1. هناك غالبًا أهداف بعيدة للسلوك لا يدركها الوعي.
  2. يقول فرويد إن معظم وظائف الأنا لا شعورية، وهو بهذا يشير إلى وجود جهة غير الوعي تساهم في صياغة السلوك الواقعي، الذي ينسب عادة إلى الوعي.
  3. توفق فرضية القيادة العليا بين مصادر السلوك التكوينية (التاريخية) ومصادره الدينامية (التفاعلية الحالية)، كذلك بين مصادره التحليلية ومصادره الكلية.
  4. تعرّف المدرسة السلوكية السلوك كما يلي:

Screenshot 2023 07 20 140724 - هل يمكن تفسير السلوك على أنه نتيجة لبرامج مخزنة بالمخ؟ .. الجزء الرابع

رغم تعدد وتعقد المتغيرات بالنسبة إلى إدراك الوعي المحدود يأتي السلوك سلسًا منظمًا هادفًا، إذًا فالوعي ليس المسؤول عن الصورة النهائية للسلوك، بل ربما كان هو نفسه –أي الوعي– أحد تلك المتغيرات.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

يترتب على فرضية المنظور الإشرافي:

  • كشف أساليب جديدة لتفسير السلوك، تتمثل في استخراج المنظور الواعي والمنظور الإشرافي لكل سلوك.
  • كشف النظام الرمزي المعقد الذي يعمل بواسطته سلوك الإنسان.

كيف يعمل المنظور الإشرافي؟

تعيش الذات في مجال الوعي، ويصل إليها من الوعي ما يسرها وما يؤلمها.

يعي المنظور الإشرافي الواقعَ من نفس قنوات رصد المنظور الواعي، لكنه يفهم ذلك الواقع على مستواه التحليلي الرمزي الذي يفوق مستوى المنظور الواعي، كما يعي رغبات الذات التي قد لا يدركها المنظور الواعي بوضوح وتحديد. وهو يسخِّر القدرات الشخصية –بما فيها المنظور الواعي نفسه– للتأثير على الواقع ليحقق رغبات الذات.

لنأخذ مثالًا على ذلك:

سلوك الاعتداد

الاعتداد بما يعنيه من تقريب الذقن من الصدر مع سحب الرأس لأعلى، دلالته الرمزية لدى المنظور الإشرافي “طلب الاحترام”، والدلالة الرمزية للسلوك مفتاح من أهم مفاتيح عمل المنظور الإشرافي.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

المنظور الواعي لا يدرك هذه الدلالة الرمزية بوضوح، بل يصف ذلك السلوك بصفات مستمدة من الموقف، فيصف الشخص الذي يفعل ذلك –أي تقريب ذقنه من صدره مع سحب رأسه لأعلى– بأنه معتد بنفسه. وهذا مجرد وصف للمظهر الخارجي للسلوك دون إدراك لمراميه الرمزية.

المنظور الواعي يقبل الاعتداد من القوي ويرفضه من الضعيف، فهو يرى المعتد الضعيف مثيرًا للسخرية دون أن يفهم سبب ذلك.

أما المنظور الإشرافي فهو يدرك الدلالة الرمزية للسخرية، وهي عدم التصديق مصحوبًا بالتعالي.

بإعلان عدم التصديق ينفي الإنسان عن نفسه شبهة عدم فهم الحقائق وشبهة احترام من لا يستحق الاحترام، وهذه هي الدلالة الرمزية لذلك الإعلان.

المعتد الضعيف ضعيف لضعفه الأصلي وضعيف لإدراكه غير السليم لحقائق الموقف، وكذا ضعيف لاتخاذه أسلوبًا سلوكيًا فاشلًا، وهذه هي الدلالة الرمزية المركبة لضعفه.

كل هذه الزوايا لا يدركها الوعي بالتفصيل، بل يحكم حكمًا عامًا سطحيًا بأن هذا الشخص مضطرب ومضحك. أما المنظور الإشرافي فيدرك كل هذه النقاط بدلالاتها الرمزية الدقيقة، ثم يصوغ رد الفعل المناسب ويوحيه للمنظور الواعي لينفذه عبر الوعي.

الوعي أيضًا لا يلاحظ سلوكًا مثل الاعتداد إلا عندما يكون متطرفًا، أما الاستخدام العادي للاعتداد فلا يلاحظه، بينما المنظور الإشرافي لا يغفل لحظة واحدة عن ملاحظة دلالات السلوك الرمزية بدقة بالغة.

المنظور الإشرافي يتابع سلوك الآخرين ويحلل ما يحويه من دلالات رمزية، وأيضًا يصوغ سلوك صاحبه وفقًا لنفس النظام الرمزي، ليصير سلوكًا مؤثرًا على الآخرين في اتجاه تحقيق مصلحة صاحبه.

هو الذي يختار لك أن تعتد ويحدد درجة ذلك الاعتداد. وكلما صار موقفك الواقعي أقوى –بالثروة أو النفوذ أو سوى ذلك– اختار لك درجة من الاعتداد أعلى من سابقتها دون أن تلاحظ ذلك أو تعيه.

نحن –أي الوعي– لا نراقب المنظور الإشرافي في أثناء نشاطه، لكن تحليل ردود الأفعال الإنسانية الرمزية –مثل السخرية من المعتد الضعيف– ينبئ عن وجود جهة ما تتعامل مع ذلك النظام الرمزي وتوجه السلوك بناء عليه.

فيما يلي سنسوق أمثلة أخرى لنوضح أسلوب عمل المنظور الإشرافي.

الشفقة

الشفقة عملية سلوكية معروفة، والمنظور الواعي يمررها على أساس أنها نوع من “الإنسانية” أو “الكمال الخلقي”.

لكن هل نستطيع بواسطة مفهوم المنظور الإشرافي أن نجد لها تفسيرًا آخر؟ سوف نحاول ذلك، بعرض كل من المنظور الواعي والمنظور الإشرافي لهذه العملية السلوكية.

المنظور الواعي:

الفكرة: ضرورة مساعدة الضعيف لأن هذا من الإنسانية والنبل.

الشعور: الحنان على الضعيف.

السلوك: مساعدة الضعيف.

المنظور الإشرافي:

الفكرة: مساعدة الضعيف تؤدي إلى:

  • أن يسود مبدأ مساعدة الضعيف، بحيث نجد من يساعدنا عندما نضعف.
  • إثبات تفوقنا وقدرتنا على العطاء.
  • إظهار ذلك أمام الناس، مما يصنع لنا سمعة حسنة.

التنفيذ:

  • تزيين فكرة الإنسانية والنبل للمنظور الواعي.
  • تهيئة شعور الحنان على الضعيف.
  • الخطوة التالية سوف يقوم بها المنظور الواعي تلقائيًا، وهي السلوك الذي يحقق الفكرة ويرضي الشعور، أي مساعدة الضعيف.

طبقًا لهذا التحليل نجد أن المنظور الإشرافي يفكر ويخطط وينفذ، كما نلاحظ أنه بينما يتسم نشاط المنظور الواعي بمفاهيم غامضة مثل الإنسانية والنبل وكذا بعدم الترابط المنطقي، يتسم نشاط المنظور الإشرافي بالموضوعية والدقة. ونلاحظ أيضًا كيف يستخدم المنظور الإشرافي المنظور الواعي أداةً لتحقيق أهدافه.

تقارب ملابس الرجل والمرأة في العصر الحديث

تعلق المثال السابق بالسلوك الفردي، وسوف يتعلق هذا المثال بالسلوك الجماعي ودور الرجل العام.

المنظور الواعي:

الفكرة:

  • نوع من التغيير أو التجديد.
  • استجابة “للموضة” الشائعة.
  • الملابس هكذا تصير أرق وأجمل.

الشعور:

  • الميل إلى ارتداء الأزياء الجديدة والارتياح لها.
  • الشعور بالتوافق مع المجتمع.

السلوك:

مسايرة الأزياء الجديدة التي يتقارب فيها زي الرجل من زي المرأة.

المنظور الإشرافي:

الفكرة:

نتيجة لضعف سلطة الرجل على المرأة لم تعد هناك حاجة إلى تميز الرجل بملابس خشنة تشير إلى قوته وصلابته، بل صار تقارب الملابس دلالة رمزية على الاشتراك في القيادة والتعاون على نفس المستوى، بدلا من وضع الرئيس والمرؤوس.

التنفيذ:

  • يبدأ التنفيذ في المنظور الإشرافي لمصمم الأزياء، فالمنظور الإشرافي للرجل العام لا يفكر لصاحبه فقط بل يعكس وجهة نظر المنظور الإشرافي لكل فرد من الجماهير، وإلا فإن الرجل العام لا ينجح ولا يستجيب له الناس. إذًا يتجه مصمم الأزياء إلى تصميم هذه الملابس العصرية.
  • يتجاوب المنظور الإشرافي لكل فرد من الجماهير مع تلك الأزياء فيقبلون على ارتدائها.

الشعور:

يهيئ المنظور الإشرافي شعورًا بالارتياح العام لهذه التصميمات، فالمشاعر كما نرى وظيفية يستخدمها المنظور الإشرافي لتوجيه المنظور الواعي.

إكرام الضيف عند البدو

رأينا في المثال السابق كيف أن المنظور الإشرافي قد يوجه الحياة العامة عن طريق الرجل العام، والرجل العام قد يكون كاتبًا أو فنانًا أو سياسيًا أو مصمم أزياء أو سوى ذلك.

لكن المنظور الإشرافي له طرق أخرى لتوجيه الحياة العامة، وذلك مثلًا بالمبادرة الفردية لأشخاص عاديين لانتهاج تقليد معين، ثم شيوع وثبوت هذا التقليد، وهي الظاهرة المعروفة بالتقاليد. وهذه الظاهرة من أعجب الظواهر السلوكية الجماعية، فهي تبدو كأن اتصالًا لا سلكيًا بين عقول الجماعة يحدد هذه التقاليد ويلزم كل فرد باتباعها، وطبعًا لا يوجد مثل هذا الاتصال، لكن يوجد منظور إشرافي لدى كل فرد له نفس القدرات وتحكمه نفس القوانين.

المثال الحالي يوضح دور المنظور الإشرافي في صنع أحد التقاليد المشهورة، وهو تقليد إكرام الضيف عند البدو.

المنظور الواعي:

الفكرة: الكرم أفضل من البخل.

الشعور: الشعور بالرضا وتقدير الذات نتيجة الكرم.

السلوك:

  • ممارسة الكرم.
  • مدح وتقدير الكرماء.

المنظور الإشرافي:

الفكرة:

حياة البدوي تعرضه لمواقف مفاجئة وظروف شاقة في الصحراء، وكثيرًا ما يحتاج للمعونة والنجدة، ولذا فسيادة مبدأ إكرام الضيف سوف ينفعه يومًا ما. فهو يروج لهذا المبدأ ويمارسه بنفسه تحسبًا للمستقبل، ولكي يشعر بالأمن في أثناء تجواله في الصحراء.

التنفيذ:

  • الإيحاء للمنظور الواعي بفكرة الكرم أنه خلق حسن.
  • تهيئة شعور حب الكريم وبغض البخيل، والرضا عن النفس عند ممارسة الكرم.

من الأمثلة السابقة نجد أن المنظور الإشرافي عندما يتجه إلى تحقيق هدف سلوكي ما فإنه يقوم بالعمليات الأساسية التالية:

  • يختار السلوك المناسب ويوحي به إلى المنظور الواعي، الذي قد يظنه إلهامًا أو ابتكارًا أو اختيارًا منطقيًا.
  • يهيئ حالة من القناعة العقلية لدى المنظور الواعي، عن طريق إيجاد مبررات ومفاهيم مقنعة للمنظور الواعي.
  • يهيئ الحالة الوجدانية المناسبة لتنفيذ السلوك، أي أن المنظور الإشرافي يمارس نشاطه بواسطة الأنظمة الذهنية والشعورية العادية، لكن من وراء ستار.

بالإضافة إلى ذلك فإن بعض الاستجابات السلوكية يخططها وينفذها المنظور الإشرافي دون أن يكون فيها دور للمنظور الواعي، وكل ما يفعله المنظور الواعي بالنسبة إلى هذه الاستجابات أن يلاحظها جزئيًا وقد لا يلاحظها إطلاقًا.

من هذه الاستجابات السلوكية عملية تغيير ملامح الوجه، كي يعبر عن انفعالات الإنسان ومواقفه كونها جزءًا من عملية التأثير على الآخرين.

مقالات ذات صلة:

التعمير والتدمير.. الطبع يغلب التطبع

طبيعة المجتمع الإنساني وما يتم بداخل من تدافع

هل تعرف كيف يتوجه سلوكك؟

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

م. مصطفى جاد الكريم

مهندس نووي ، شاعر وكاتب

مقالات ذات صلة