مقالات

الأمة المأزومة – الجزء الثاني

العلل.. المآلات.. الحلول

في الجزء الأول من سلسلة مقالاتنا المعنونة بـ”الأمة المأزومة : العلل.. المآلات.. الحلول”، أشرنا إلى أن الإسهام في تلمس الملامح العامة لسبل تشخيص الوضعية المأزومة التي تعيشها أمتنا على نحو سليم ومتفق عليه، يتطلب –بداية– الإقرار بعدد من البديهيات، هذه البديهيات هي:

البديهة الأولى:

إن بنية أية أمة تتشكل من مكونات ثلاث رئيسة هي:

  • عقل جمعي (وعي) يتشكل من التصور الذي تتبناه الأمة للوجود والغايات التي تبشرها بها في هذا الوجود، وسبل وكيفية تحقيق هذه الغايات، ودور مكونات هذه الأمة (أفراد، جماعات، مؤسسات..) في تحقيق تلكم الغايات.
  • الواقع الفعلي الذي تعيشه الأمة بمكوناتها المختلفة، والذي يفترض أن يعكس طروح هذا التصور في الكيفية التي تحدد سمات وأدوار هذه المكونات (أفراد، جماعات، مؤسسات..) والعلاقات فيما بينها، وعلاقة الأمة بغيرها من أمم الدنيا، والسبل والوسائل التي تتبعها الأمة ومكوناتها في سعيها نحو تحقيق الغايات التي يطرحها هذا التصور، وهنا لا بد من معرفة طبيعة الوسط الدولي المحيط وما إذا كان محايدا أو منافسا أو معاديا. وما يعنيه ذلك من وجود قوى مضادة قد تعيق تحقيق حركة الأمة حتى لو كان وعيها سليما ووسائلها في البناء كافية.
  • مؤسسات تنزيل الوعي على الواقع، وهي مؤسسات التربية والتعليم والدعوة والإعلام وغيرها من المؤسسات الثقافية التي تسهم في بناء وعي الإنسان.

البديهة الثانية:

إن أي تشوه في أي طرح من طروح ذلك التصور أو في فهم القائمين على أمر هذه الأمة لتلك الطروح سيخلف حتما تشوها في ماهية مكونات الأمة التي تنبني على هذا التصور، أو سيخلف تشوها في علاقتها ببعضها البعض أو في علاقة الأمة بغيرها من الأمم، بما يعني في النهاية تشوه واقع  الأمة الذي ينبني على هذا التصور.

البديهة الثالثة:

إن أي اختلال في تنزيل هذا الوعي أو في أداء مؤسسات التحام هذا الفكر  بالواقع سواء ببعده الفردي أو المؤسسي، سواء في مؤسسات التعليم أو التربية أو التثقيف أو الإعلام أو مؤسسات صناعة القرار المبني على هذا الوعي سوف يعني اختلال إمكانية إصلاح الواقع.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

البديهة الرابعة:

إن أي قصور يصيب عمل مؤسسات تنزيل طروح هذا التصور الفكري في أرض الواقع –حتى لو كان هذا  التصور سليما– سوف يجعل احتمالية بلوغ الأمة للغايات العليا التي تصبو إليها احتمالية غير ممكنة، على قدر ما في تطبيق هذه الطروح من قصور.

البديهة الخامسة:

إذا كان ثمة قصور يضرب طروح ذلك التصور الفكري، ويضرب من ثم التطبيقات التي تهتدي به في أرض الواقع، فإن هذا يجعل إمكانية تحقيق الغايات التي يحملها هذا التصور ضربا من المستحيل، لأنه لا يعقل إصلاح واقع مختل بتصورات مختلة.

البديهة السادسة:

إن استمرار اختلال الواقع لفترة مديدة من الزمن دون أن يكون ثمة قدرة للتصورات الفكرية السائدة على إصلاحه يعد دليلا بينا على اختلال هذه التصورات، أو اختلال عمليات تنزيل هذه الأفكار على الواقع، أو اختلال ترتيب الأولويات لدى أصحاب هذه التصورات، أو اختلال تقديرهم للقوى المضادة التي يمكن أن تعيق تنزيل هذا التصور على الواقع.

البديهة السابعة:

إن أي إصلاح لخلل الفكر أو الواقع يتطلب بداية تشخيصا سليما ومتكاملا ومتفقا عليه لمقدار هذا الخلل الكائن وعلله كمقدمة حتمية للانتقال إلى ما ينبغي أن يكون.

فجوة هائلة

وإذا ما سحبنا هذه البديهيات السبع على واقع أمتنا نجد أن ثمة خللا جليا في واقعها لا يختلف عليه اثنان. خلل يضرب واقعها منذ قرون عدة خلت دون أن يتمكن أي طرح فكري من التصدي له، فمنذ أن قامت النهضة الأوربية الحديثة، وعلى حد تعبير طه جابر العلواني:

اضغط على الاعلان لو أعجبك

“وجد الأوربيون أمامهم أنه لم يبق من مقومات أمتنا أمة الإسلام الحقيقية شيء يذكر، فالعقيدة خاملة، وإيمان الكثيرين مزعزع، واليقين لم يعد يقينا، والسلوك منحرف، والاستقامة معدومة، والفكر خامد، والاجتهاد معطل، والفقه مفقود، والبدع كامنة، والسنة نائمة، والوعي غائب، حتى أركان الأمة ليست هي،

حالة كهذه قد أغرت الذين كانوا يتربصون بالأمة، فاستغل الغربيون هذه الفرصة واحتلوا البلاد وامتلكوا العباد، وقضوا على البقية الباقية من مقومات شخصية الأمة، حتى وصل الحال إلى ما نحن عليه اليوم من هوان واستكانة، وصارت مقاليد أمورنا بأيدي أعدائنا يقررون مصائرنا، فنلتمس عندهم الحل لمشاكل أوجدناها بأنفسنا وشكلناها بأيدينا”.

وهكذا فالخلل الذي تعيشه الأمة هو خلل لا يقف عند إخفاقها في تحقيق غاياتها في هذا الوجود الماثلة في أن تصبح أمة الرحمة للعالمين، وإنما يمتد إلى تهديد وجودها ذاته، ولم لا؟

وها هي تتشظى إلى دول –أو بالأحرى أمم– متغايرة، وأحيانا متناحرة، استنادا إلى علل مذهبية تارة، أو طائفية أو سياسية أو اقتصادية أو جغرافية تارة أخرى، بل نجد بعض أبناء الدولة الواحدة يتناحرون فيما بينهم تناحرا يكاد يبلغ بهم حد الفناء.

ولا مراء أن كل هذه أمور تجعل الحليم من أمتنا حيرانا، فكيف لأمة الشهادة –خير أمة أخرجت للناس– أن يصيبها كل هذا الوهن الذي يجعلها تكاد تكون مستباحة من كل الناس؟ وكيف لأمة التوحيد، والتي أكد قرآنها مرارا وتكرارا أنها أمة واحدة تتمزق إلى أمم عدة؟ وكيف أن كل أمة أو دولة تتشظى –بدورها– إلى فرق وفصائل عدة على نحو جعل انصياع أمة التوحيد لأمر ربها لها أن تكون أمة واحدة أملا بعيد المنال؟

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وإذا كان هذا الخلل يضرب الأمة منذ قرون خلت فلا يمكن لعاقل أن يماري أن ثمة خلالا في التصور أو التصورات التي تتبناها الأمة للتصدي لهذا الخلل دونما جدوى.

وهكذا ثمة فجوة هائلة بين ما كان عليه حال أمتنا –منذ قرون خلت– وحالها الآن. وإذا كان حجم الفجوة أمرا لا تكاد تخطئه عين، فإن الإشكالية الحقيقية تكمن في محاولة فهم علل هذه الفجوة، أو بمعنى آخر الوضعية التي جعلت أمتنا تكاد تحتل موقع المؤخرة بين أمم الدنيا.

ويتطلب فهم هذه الفجوة طرح عدد من التساؤلات الحتمية التي تفرضها وضعية الأمة أمامنا، ثم تقديم الإجابات التي تعد أيضا حتمية على هذه التساؤلات ثم استعراض التفسيرات التي تقدم من قبل التيارات الفكرية القائمة لوضعية الأمة، ومدى سلامة هذه التفسيرات، وهذا ما سنفصل الحديث عنه في مقالات لاحقة بمشيئة الله تعالى.

اقرأ أيضاً:

أثر العقل الجمعي على السلوك الفردي

المجتمع المدني العربي والتعليم بين الواقع والمأمول

اضغط على الاعلان لو أعجبك

السياج الأخلاقي القيمي وأزمة التربية العربية

د. محمود السماسيري

أستاذ الإعلام المشارك بجامعتي سوهاج بمصر حاليا، واليرموك بالأردن سابقا.

مقالات ذات صلة