فن وأدب - مقالاتمقالات

اسمه زيان – قصة قصيرة

شمس الشتاء بدفئها الحاني الذي يدغدغ المشاعر، كانت مكتملة الإشراق في صباح ذلك اليوم، عقب العديد من ليالي البرد، التي دفعت الجميع للالتحاف بكثيف الأغطية.

خرج زيان كعادته بسنواته الخمس، وردائه السميك المغبر، وملامحه البريئة الباسمة ليطارد الفراشات الملونة التي تشاركه بهجة اليوم الصحو، وبينما تمتد يده لتنفرد وتنقبض مرارا، وهو يرفعها برفقة رأسه لأعلى في محاولات لا يمل منها، تعثر واستقام مرتين ولم يفقد أثر الفراشات بعد، وجاءت العثرة الثالثة لتصبح حديث العالم كله!

فوهة بئر قديمة جافة مظلمة، انقطع سبيلها منذ أعوام لا يذكرها المحيطون بها، ولم يخطط أحدهم يوما لغلقها أو ردمها، وكأنما ينتظرون منها المدد الذي كم روى عطش آبائهم وأجدادهم من قبل!

كانت فوهة البئر لا يتعدى قطرها نصف المتر، وحولها بعض الحشائش الجافة التي كم ناجتها بتعجيل مددها مجددا، وبينما يدهس زيان بقدمه الدقيقة وحذائه المهترئ تلك الحشائش، داس بقدمه على فراغ منتصف البئر، ليختل توازنه ويغوص فيها وما زالت عيناه معلقة بالسماء التي كانت مليئة بالفراشات منذ قليل!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

تخبط جسده الضئيل بجدران البئر التي أخذت تضيق لتضيق معها أنفاسه، لثوان اقتربت من اكتمال الدقيقة الكاملة لم يدرك ما يحدث إلا بعد استقراره في قاع البئر، وقد تكبلت ذراعاه وقدماه عن الحركة، وأصبح بالكاد يحرك رأسه يمينا ويسارا، أخذ ينادي أمه التي طلبت منه ألا يبتعد عن المنزل، ولم يجد ردا، اعتذر لها لمخالفته أمرها، ولكن لم تجبه، بكى بقوة كادت أن تبح صوته، شعر بألم يعتصر مؤخرة رأسه، حركها يمنة ويسرة مجددا عسى أن يتوقف، ولكن ارتفعت وتيرته!

فعاد للبكاء مجددا، لا يدري ما قيمة الوقت ولم يحاول إحصاءه، ولكن من بين أصوات بكائه، طرق أذنه صدى عجيب، كأنما نغمة من عود يشدو لحنا يناشد قلبه، انقطع بكاؤه فجأة وإن لم تجف دموعه، وإذا بالبسمة يشرق بها وجهه، فالنغمة تصاعدت لتبث فيه كل الطمأنينة والسكون، إنها صوت أمه تناديه، يعلو الصوت تارة، ويخفت أخرى حسب اتجاه صوتها ربما، وأخيرا ظهر وجهها بفزع لتصرخ بعدها.

وبدأت الأحداث لمتابعة عملية إنقاذه العسيرة جدا، لضيق البئر وعمقه وطبيعة التربة القابلة للانهيار في أي وقت لتدفنه تحتها.

وصل الخبر للإعلام، وفي زمن مواقع التواصل الاجتماعي كانت أعين العالم كلها مصوبة نحوه، تدعوا له وتؤازره، وانطلقت كل مؤسسات البلد بكامل طاقتها لمحاولة إنقاذه التي استمرت ما يقارب أسبوعا!

وكالعادة كان الجدل الكبير على مواقع التواصل الاجتماعي، من يقول أين أطفال سوريا ضحايا الحروب والصراعات الدموية والذين لم يحظوا بلمحة اهتمام، مثل زيان الذي يتابعه الجميع بعيون ساهرة وقلوب متضرعة؟ أين أطفال اليمن وشتى البقاع المليئة بالكثير من الكوارث الإنسانية؟

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وأخيرا خرج زيان، ليحظى برعاية طبية فائقة، ليعود إلى الحياة بميلاد جديد شهده العالم أجمع بعيون فرحة دامعة.

وبعدها وبما اعتاد عليه الجميع خفت كل شيء وطوى النسيان كل أمر يتعلق بزيان، ولم يتبق منها إلا الأمر الحكومي بحصر كل بئر على طول البلاد وعرضها، ثم العمل على ردمها أو تأمين حدودها لمنع تكرار الكارثة.

*****

بعد أربعين عاما..

تهادى زيان بدراجته الهوائية حتى توقف بها بجوار منزله المتواضع، نزع حقيبته البسيطة بما فيها من مؤن وأغذية يطلبها بيته، ودخل ليقابل زوجته التي رحبت به وهي تهمس له قائلة:

اضغط على الاعلان لو أعجبك

– لماذا تأخرت، الأطفال جياع!

منحها بسمته وصمته وهو يمد يده لها بما تنشد، ودخل لأمه التي جاوزت السبعين عاما وما زالت تحمل نضارتها وبسمتها الوضاءة، قبل يدها، وجلس ملتصقا بها كعادته يلتمس منها تلك الطاقة العجيبة بقربها والتمسح بها!

مدت يدها لتوسد رأسه التي ارتخت على كتفها، وقالت له:

– لا تقلق يا ولدي، ربك هو الرزاق الكريم، سيكتب لك من كل ضيق مخرجا.

ببسمة شاحبة وبصوت لفه الهدوء والاطمئنان قال:

اضغط على الاعلان لو أعجبك

– سبحان من أحياني بعد مماتي منذ أربعين عاما، هل تعلمين أماه، وقتها ظننت أن الله هيأ لي الأرض كلها بمن فيها لأن لي شأنا عظيما ينتظرني، وظللت حبيس هذا الشعور حينا من الدهر، وأنا أتخيل نفسي قد صنعت فارقا غيّر الكثير من شأن العالم كله، ولكن ها أنا ذا نكرة بالكاد يجد قوت يومه، اليوم كتبت رسالة أذكِّر العالم فيها أني أنا زيان الذي انتفض له الجميع يوما وقد أصبحت مجهولا في الأرض، وأعتذر لأطفال سوريا واليمن أن التهمت اهتمام الناس منهم يوما!

بنفس النغمة الشجية التي تسكن لها أوتار قلبه قالت:

– وهل يكفيك أن نجاتك كانت بدعائي لك بالحفظ لم يكن بينه وبين الله حجاب؟

– كانت النجاة وحدها تكفي بلا ضجيج! لمَ صرت محط اهتمام العالم كله، وبعدها لا شيء؟!

– الله يسيّر الكون بما لا تدري يا ولدي، فهو سبحانه الحكيم القدير.

كانت رسالة زيان التي كتبها للعالم متشكلة على هيئة مركب صغيرة، ألقاها في مجرى النهر صباح ذلك اليوم، ليحملها التيار متخبطة بين ضفتيه حينا، وبعض الحشائش حينا أخرى، ثم متجهة لمنتصف النهر لتنطلق إلى جنوب البلاد في رحلة طويلة لم توهنها الرياح ولا العوائق، وأخيرا استقرت عالقة على أحد الجوانب، لتعتليها فراشة ملونة!

*****

كان واقفا مستمتعا بدفء الشمس ونسمة الهواء الباردة التي تصافح وجهه، ينظر للخضرة التي تريح بصره، تلك التي افتقدها في معمله بالعاصمة، الآن يعرفه العالم أجمع بعد نجاحه في أبحاثه الطبية والعلمية وابتكر مصلا يشفي ذلك المرض العضال الذي حير العلماء قرونا من قبل، وها قد خط التاريخ اسمه بأحرف من نور!

تابع تلك الفراشة وهي تتحرك في دائرة يظنها البعض عشوائية، حتى هبطت بسلام لتعلتي تلك المركب الورقية، أخذت ترفرف بجناحيها قليلا فوقها كأنما تناشده بإنقاذ هذه المركب ثم طارت، ولم يخيب ظنها، فامتدت يده ليتناولها ولمحت عيناه كلمات من رسالة لشخص اسمه زيان، فض المركب ليقرأ رسالته البائسة، وابتسم عندما طرق ذاكرته ما حدث منذ تسع وثلاثين عاما،

كان يطارد الفراشات بمثل ما فعل زيان، وتعثرت قدماه ليقع فوق فوهة بئر مماثلة، ولكن..

كانت قد سدت فوهتها بعد تنفيذ ذلك الأمر الحكومي، ولم يحدث له تأثير فراشة زيان!

اقرأ أيضاً:

صورة وألف معنى

يوميات بني مجد

معضلة التنين

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*****************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. أحمد السعيد مراد

طبيب وروائي – عضو اتحاد كُتاب مصر

مقالات ذات صلة