مقالاتعلم نفس وأخلاق - مقالات

أزمة منتصف العمر ما بين الرضا والسخط

ذات يوم في جلسة مع صديقتي على ضفاف النيل؛ أطلت أعيننا على رجل كبير في السن يقارب الستينيات من عمره، يجلس بمفرده وكان ذا لحية بيضاء وجلباب أبيض، في يده سبحته تنساب حباتها بين يديه لم يلفت انتباهنا تلك المظاهر التي بدت عليه أكثر من تلك النظرة الهادئة إلى السماء في تأمل مهيب منه تنعكس على قسمات وجهه، فأخذنا نتبادل الحديث يا تُرى ما سر ذلك الهدوء الكامن فيه؟!

“إريك إريكسون”

عالم نفس معروف بنظريته في التطور الاجتماعي للإنسان حيث يرى أن كل إنسان يمر من خلال عدد معين من المراحل ليحقق طموحاته بصورة كاملة في النهاية، وهم ثماني مراحل يمر بها الإنسان من الميلاد حتى الموت.

أولا: مرحلة الشعور بالثقة

أو مرحلة الرضاعة وهي تتضمن السنة الأولى من حياة الطفل فإما أن يحدث إشباع للطفل نفسيا عن طريق الأم من خلال حنانها ورعايتها له أو عكس ذلك من الإهمال؛ فينعكس على ثقته بنفسه مستقبلا.

ثانيا: مرحلة الاستقلال من ثمانية عشر شهرًا إلى ثلاثة أعوام

الصراع بين التحكم الذاتي والخجل؛ ففي تلك المرحلة يكتسب الطفل الكثير من المهارات، ويتطور جسده فيبدأ المشي والكلام ويتعلم الذهاب للمرحاض والطفل هنا حساس أثناء تعلمه؛ فلا يجب الضغط عليه أو التقليل منه أو إهانته بأي شكل من الأشكال وخاصة أمام الآخرين حتى لا ينعكس على الطفل بالاهتزاز والإصابة بالخجل فيما بعد.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ثالثا: مرحلة تطوير الشعور بالمبادرة من ثلاثة إلى ستة أعوام

صراع بين المبادرة والإحساس بالذنب؛ وهنا يبدأ الطفل بالقيام ببعض الأعمال بمفرده كأن يرتدي ملابسه أو يحمل الأشياء من مكان لآخر أو المساعدة في الأعمال المنزلية وعندما يفشل في القيام بذلك يشعر بالإحساس بالذنب؛ لذلك من الضروري أن يتم التركيز في تلك المرحلة على مهارة حل المشكلات فعندما يقع الطفل في مأزق يجب المحاولة معه لكي يصل إلى الحل وأن ندرِّبه على التفكير فيما آل إليه الموقف الحادث معه من خلال النقاش الهادئ، بالإضافة إلى مساعدته على اكتساب خبرات جديدة وتجنب الأخطاء السابقة.

رابعًا: تطوير الشعور بالمثابرة من ستة إلى اثني عشر عاما

المثابرة مقابل النقص والمتبعة بالإنتاجية؛ فتبدأ النظرة للآخرين ومقارنة ذاته معهم والشعور بالنقص في حالة أن تبادر إليه أي علامات تُوحي بأن هناك من هو أفضل منه.

خامسًا: تطور الشعور بالهُوية من اثني عشر إلى ثمانية عشر عاما

وهنا تظهر التساؤلات الخاصة بهُوية الفرد عن ذاته وعن وجوده ودوره في المشاركة المجتمعية وإن لم يُتِح الآباء لهم الفرصة لاكتشاف الذات؛ فسيصبح فرد متبع بدون رأي غير ثابت مهتز.

سادسا: تطور الشعور بالمحبة والانتماء من ثمانية عشر عامًا إلى خمسة وثلاثين عامًا

يبدأ البحث عن الحب والاستقلال واختيار شريك الحياة والاستعداد للزواج مع تواجد القدرة على سماع الآخرين وتقبل النقد.

سابعا: الشعور بالإنتاجية من خمسة وثلاثين عامًا إلى خمسة وخمسين عامًا

الصراع بين الإنتاجية والركود؛ فيركز الفرد على ذاته ويبدأ النظر لسنوات عمره الماضية؛ فإذا وجد زيادة في الإنجازات وتحقيق مبتغاه؛ شَعر بالرضا، أما إذا وجد المزيد من الخسائر فقد الرضا. وهنا تبدأ أزمة منتصف العمر والتي هي موضع حديثنا بعد سرد المرحلة التالية.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ثامنًا: مرحلة تكامل الأنا من ما بعد خمسة وخمسين عامًا إلى آخر العمر

صراع بين الارتياح والأنا؛ فتَنتُج الحكمة وهو في سن الشيخوخة فإن كان الفرد راضٍ عن ماضيه؛ فإنه يشعر بالارتياح، أما إذا كان غير راضٍ عن ماضيه فهو يشعر بالأسى واليأس ويخشى الموت.

أزمة منتصف العمر

تم تعريفها وفقا للتصور التالي؛ أنها المرحلة الانتقالية التي تبدأ من سن الأربعين إلى الخامس والستين بالنسبة للرجال والنساء؛ بحيث يختلف منظور الشخص للأشياء والوقائع في حياة الشخص ويختلف تعامله معها، وكأنه يقوم بتكوين شخصيته من جديد.

علامات الوصول لتلك المرحلة:

يشعر الفرد في تلك المرحلة بالاكتئاب الشديد والحزن على ما مضى من عمره وندمه على الكثير من القرارات سواء كانت المتعلقة بالحياة الاجتماعية أو العملية أو الشخصية، ويبدأ البعض باتخاذ قرارات أخرى بديلة لمحاولة تفادي ما حدث من أخطاء.

العلاقة بين “إريكسون” ومنتصف العمر مع النقد

من خلال النظر إلى المراحل التي ذكرها “إريك إريكسون” نجد أن هناك تسلسل وارتباط في بناء شخصية الفرد وكل مرحلة؛ فكل مرحلة بمثابة درجة سُفلى للارتقاء إلى الدرجة العليا، ومن ثَمَّ؛ أي خلل في أي مرحلة سيفقد الفرد التطور المقصود منها وسيؤثر على المحصلة النهائية لتكوين الشخصية مع التنويه أننا هنا لا ننفي إرادة الفرد في محاولته لاكتساب ما فاته نتيجة عدم توفيرها من البيئة الحاضنة له في تنشئته.

النقد:

ونقطة الارتباط هنا في الحديث عن أزمة منتصف العمر هي تساؤل فرض نفسه عندما كان يتحدث أحدهم مُعممَّا على أن الجميع في تلك المرحلة تتضارب أهدافه ويشعر بالتيه الشديد على ما مضى. فجاء التساؤل؛ هل الجميع يجب أن يمر بأزمة منتصف العمر؟ هل كل رجل أو سيدة يمرون بتلك المرحلة وجب أن يصابوا بحالة الاكتئاب الشديدة تلك؟ أم أنَّ الموضوع قائم على ما كان يزرعه هؤلاء الأفراد في نفوسهم خلال مسيرة حياتهم؟

اضغط على الاعلان لو أعجبك

فلنقارن بين شخصين (س) و(ص)، كان “س” يعلم أنه خُلق لدور معين عليه أن يبحث عنه ويؤديه؛ فكانت جميع خطواته مدروسة ومراحله التي يمر بها هي حلقات تُكمل بعضها البعض فكان سعيه إصلاحي لا إفسادي وكان كل همه وقاية نفسه، بينما على النحو الآخر “ص” كان يعيش اليوم بيومه حياته عبث في عبث فوضى عارمة بلا تحديد لأي هدف. تُرى كيف حال كل منهم عندما يصلون للخمسينات؟ لكم أن تتوقعوا أي البناء قوامه أصلب وعمدانه أمتن؟ فالإجابة واضحة؛ هناك من سيرضى وهنالك من سيخنع لما بقى من العمر، ومن ثم جاء الرفض لحالة التعميم للنظرية فيما يخص أزمة منتصف العمر.

ولنزيد الأمور وضوحا عن الجانب الخاص بحالة الرضا، متى يمكن للفرد أن يشعر بالرضا عن نفسه؟

بل كيف يرضى وخاصة في تلك الفترة الحرجة وأنت تشعر إنك على أعتاب السنوات الأخيرة من العمر؟! بل وكيف وصل البعض لتلك المرحلة من الرشد والحكمة والتقبل لجميع الأمور؟

أي الرضا علينا أن نرضى؟!

ونحن هنا بحاجة لوضع تصور صحيح عن الرضا أيضا؛ فمفهوم الرضا اصطلاحا يعني الاطمئنان وطيب النفس بما يصيبها وعدم الجزع على متغيراتها، ولغة يعني عدم النفور وضده عدم السخط فنقول رضا النفس أي اطمئنان النفس.

وعند قياس نظرية “إريكسون” خاصة على مفهوم الرضا وتحقيق الانجازات كما ذكرنا في المرحلة السابعة والثامنة يجب أن نضع معيار واضح لأي الإنجازات التي علينا أن نطمح إليها وأي الرضا علينا أن نركن حتى لا نصطدم في آواخر العمر حسرة على ما ضيعنا.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ولا أفضل من معيار الحكمة وهو أن تضع كل شيء في موضعه الصحيح وتقيس ما يستحق الانشغال به وما يستحق تركه مع عدم الندم عليه، وأن يكون الحق نُصب عينيك في كل خطواتك وازدراء الباطل في أقل ثغراتك.

فالإنجاز الحقيقي هو الانتصار على النفس وأعتقد أن تلك هي النقطة المحورية في أزمة المنتصف وهي البكاء على الإنهزامات أمام طغيان النفوس، وأن اليأس يكون مقرون بصاحبه نتيجة لاكتشاف حقائق الأمور وفداحة ما تم إضاعته فتلك هي الخسارة الحقيقية وذلك لمن انصلح حاله في تلك المرحلة وأدرك وعلم وعمل.

وأخيرًا

لمن هم على أشراف مرحلة الشباب؛ لا تكونوا أعداء الرضا.
وسلامًا على ذلك العجوز صاحب النظرة المطمئنة؛ فلعله حقق رضاه ولعلنا جميعا نرضى.

المصادر

1) إريك أريكسون
https://cutt.ly/9yUEQxm
2) أزمة منتصف العمر
https://cutt.ly/tyUEWQE

اقرأ أيضا:

إلف العادة (إحنا مش هنخلص بقى؟)

قلق الموت

التقييم والتقويم وصولًا للقيمة

خلود أشرف

طالبة بكلية العلوم جامعة القاهرة

باحثة بفريق مشروعنا بالعقل نبدأ بالقاهرة

مقالات ذات صلة