مقالات

على خط النار لا يحترق الدب الروسي

بدايةً

لم أكن من المؤمنين بنظرية الفوضى الخلاقة، ذلك المصطلح الذي طفا إلى السطح عام 2005، إزاء تصريحات وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس آنذاك حول غزو العراق.

مفهوم الفوضى الخلاقة

يُعنى المصطلح بحالة سياسية تقتضي ثباتًا في البداية، ثم حالة من الفوضى يعقبها تغيير، أي النزوح عن الثبات وصولًا إلى خلق حالة جديدة منوطة بعكس الأمور لصالح شأنٍ جديد مضاد تمامًا للحالة الأولى من الثبات، هكذا تكون الفوضى أحيانًا خلّاقة.

لكن مهلًا، في هذا مخاطرة! لأن ليس بالضرورة خلق حالة جديدة تكون جيدة، فأحيانًا الحالة الجديدة تتأرجح ما بين وبين، تخلق حالة من العبث المُستمر والتخبط غير المسؤول.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

أحيانًا تقودنا القرارات السياسية بنعتة سُلطوية لإحداث حالة من الفوضى، تبعدنا عن الاستقرار في سبيل إحداث تغيير واقع، كما كان الحال في مطلع العام الجاري ولمدة سنواتٍ طوال مستقرًا بالنسبة إلى الجانب الروسي، حتى كانت الواقعة.

روسيا في قطاع الطاقة الأوروبي

بدايةً كان الأمر مثاليًا معتادًا، لا زالت روسيا تمثل الجار المشاكس الأضخم للاتحاد الأوروبي، الذي يمتلك حصة ضخمة من سوق الطاقة الأوروبي، تصل نسبتها إلى 40 بالمائة من إجمالي حجم تجارة سوق النفط في أوروبا.

الطاقة أمر مقدس بالنسبة إلى عصور الحداثة وما بعدها، لاعتماد الصناعات الضخمة والصغيرة عليها، حتى إن وسائل المواصلات والتدفئة تعتمد بشكل كليّ حتى هذه اللحظة على الطاقة الناتجة عن النفط الخام لاستكمال عجلة دورانها.

من أبسط الأشياء لأضخمها يعتمد على الطاقة المُسالة الناتجة عن حرق الوقود الأحفوري، ما جعل روسيا تتحكم تحكمًا كبيرًا في سوق الطاقة الأوروبي ولسنواتٍ طويلة.

كان كل شيء يسير بشكلٍ مستقر، حتى بدأت الفوضى، الفوضى التي خلقت العبث.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

 من حيث بدأ كل شيء

24 فبراير، يصدر قرار رئاسي من الرئيس الروسي بوتين بالغزو العسكري للأراضي الأوكرانية، تعقيبًا على رغبة الآخر في الانضمام إلى حلف الناتو المعادي لسياسات الدب الروسي، واندلعت الحرب.

وسط نداءات المجتمع الدولي بوقف العدوان الروسي، ومحاولة الوصول إلى حل سلميّ دون استجابة من الدب الروسي، اجتمع الاتحاد الأوروبي لبحث الأمر وتم فرض حزمة من العقوبات الاقتصادية الرادعة على روسيا، أملًا في وقف العدوان دون استجابة روسية حقيقية.

ليزداد تأزم الموقف، فتزداد حزم العقوبات التي يفرضها الاتحاد الأوروبي في محاولة لوقف الغزو الروسي، وسط ترقب العالم للحدث والرد الروسي السياسي على الأمر، بدأ كل شيء يسقط تجاه الهاوية بسرعةٍ ضخمة.

الابتزاز الروسي والأجوبة الأوروبية

فور إعلان أورسولا فون دير لاين رئيسة المفوضية الأوروبية أن الاتحاد الأوروبي يستعد لإنهاء اعتماده على النفط الروسي ووقف مشترياته منه بنهاية العام الجاري 2022، ذلك ضمن حزمة من العقوبات الجديدة التي تم فرضها على الجانب الروسي آنذاك.

الإعلان الذي أحدث انقسامًا نوعيًا داخل أروقة الاتحاد الأوروبي ذاته، وخلق موقفًا عدائيًا واستلزم ردًا من الجانب الروسي.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

كان الرد الروسي من خلال إصدار الرئيس بوتين قرارًا من شأنه آنذاك زيادة حالة الاحتقان السياسي في هذا الشأن، بعد اشتراطه دفع ثمن الغاز الطبيعي المُصدر لمن وصفهم بـالدول غير الصديقة –يقصد دول الاتحاد الأوروبي– بالروبل الروسي.

إذ قرر في مستندٍ رسميّ أصدره في مارس الماضي بيع الغاز عبر شركة غاز بروم، ويتم تنفيذه بدايةً من أبريل بنفس العام، وأن الدفع يكون شريطته الوحيدة استخدام العملة الرسمية الروسية.

قرار الاتحاد الأوروبي بشأن النفط الروسي يؤثر على أسواق الطاقة عالمياً

01d1a599f384cc4a745a41ea1329f3e1 1024x576 - على خط النار لا يحترق الدب الروسيقرار من شأنه تقوية العملة الروسية في مقابل اليورو، وإنعاش الاقتصاد الروسي، وهو ما يُعد مُنافيًا لحزم قرارات العقوبات المفروضة، وسط سخط عام من دول الاتحاد الأوروبي.

التي بدورها رأت في الأمر تعجيزًا وحربًا اقتصادية ضدهم من قبل الدب الروسي، وسط تحذير الرئيس الروسي نفسه من خطورة حظر استيراد النفط والغاز الروسي، مُعللًا ذلك بأنه يمثل خطرًا على الأمن الاقتصادي لمعظم دول العالم.

فورًا قررت شركة غاز بروم وقف إمداد بولندا وبلغاريا بالغاز، وحتى سداد المستحقات بالطريقة المعتمدة التي قررها الدب الروسي، انصياعًا للشروط السالف ذكرها المتعلقة بالدفع بالعملة الروسية.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ما وَضَعَ الدولتين في أزمة ضخمة، إذ إن اعتمادهما الضخم على إمدادات الغاز يصل إلى نسبة 90 في المائة بالنسبة إلى بلغاريا و45 بولندا، ما داهم الاقتصاد البولندي بخطر مرعب.

بدأ الضغط الروسي ردًا على قرارات الاتحاد الأوروبي من خلال خلق الحالة العبثية، التي وبكل تأكيد ستخلق فوضى، تلك الفوضى التي هي أساس كل شيء.

على الجانب الآخر، أهلًا بك في أوروبا

عارضت المجر القرار تمامًا، وصرح الرئيس المجري أنه لا مساس بالاتفاقيات المُبرمة مع الجانب الروسي بهذا الصدد، وفي خطابٍ شعبيّ أوضح أنه لم ولن يتم التصويت على قرار من شأنه الإضرار بالمصلحة العليا للبلاد، فيما يخص مسألة الطاقة.

بينما ناشدت إيطاليا دول الاتحاد الأوروبي الدفع للجانب الروسي بـالروبل، انصياعًا لقرارت الحكومة الروسية، وتأجيل قرارات وقف الاستيراد للغاز الروسي، وقطعه بشكل تدريجي.

دول مثل النمسا وجمهورية التشيك وسلوفاكيا عارضت القرارات المُتعلقة بوقف استيراد الغاز والنفط من روسيا، معللة بأن ذلك قد يعيق الاقتصاد الوطني من التطور.

خاصةً أنه لا يزال في مرحلة التعافي من التداعيات السلبية الاقتصادية الناجمة عن جائحة كورونا، ما يشكل خطرًا وشيكًا على الأمن الداخلي.

هل تنجح خطط أوروبا في إنهاء سطوة الغاز الروسي؟

أيضًا ألمانيا رأت أنه من الضار جدًا وقف استيراد الغاز بنهاية العام الحالي، ووافقت أيضًا على قرارات الدب الروسي، حيث وافقت على سداد مقابل ما تحصل عليه من إمدادات الغاز الطبيعي من روسيا باليورو إلى بنك غاز بروم بانك الروسي الذي سيحول العملة إلى الروبل بعد اتفاقٍ مُشترك بينهما.

على نفس المِنوال انصاعت الدول للاتفاق الذي يقضي بالدفع باليورو أو الدولار لبنك غاز بروم بانك والتحويل إلى الروبل.

تَناسُب المواقف بين الدول نتج عنه هشاشة حتمية في مواقف الدول الأوروبية، أوجدت انقسامًا بين الصفوف ما بين فرض حظر فوري أو تدريجي على استيراد النفط من روسيا، بينما أبرزت تلك المواقف المتضاربة مدى قوة الدب الروسي في مواجهة حزم العقوبات المفروضة.

لاحتواء الأزمة صرح الاتحاد الأوروبي بأن طالما يتم الدفع من قبل الدول بـاليورو فلا ضير في ذلك، ولا يُعد خرقًا لنصوص العقوبات.

روسيا وزن ثقيل في سوق الطاقة تسعى أوروبا لتخفيفه

كل هذه التصرفات كانت مناقضة مثلًا للموقف البريطاني المُتسق مع قرارات الاتحاد الأوروبي، وكذلك الموقف الأمريكي، ذلك أن إمدادات النفط الروسي بتلك الدول لم تكن تشكل حجمًا ضخمًا من حجم سوق التداول الكلي في مجال النفط.

بناءً عليه وتحاشيًا لارتفاع سعر النفط بشكل غير متوقع استنادًا للموقف الأوروبي الروسي المتأزم، قرر الرئيس الأمريكي جو بايدن إطلاق كميات كبيرة من الاحتياطيات الاستراتيجية للنفط،

مع مناشدة السعودية بأن تزيد من معدلات إنتاجيتها للنفط، إضافةً إلى دراسة رفع العقوبات المفروضة على النفط في فنزويلا من أجل تعويض المعروض منه مقابل تراجع الإنتاج الروسي.

اقرأ أيضاً: حرب أوكرانيا هي مجرد علامة لتغيير النظام العالمي

تعرف على: مختصر قصة الغرب خلال الخمسة قرون الأخيرة

اقرأ أيضاً: دوستويفكسي ممنوع في إيطاليا

العبث نتيجة حتمية للفوضى .. بدائل أوروبا إذا قطعت روسيا إمدادات الغاز عنها

faa41b60 3c12 4604 ad47 41e005f9eacb 16x9 600x338 - على خط النار لا يحترق الدب الروسي

إن أعدت النظر للأمر فلن ترى إلا فوضى حقيقية خلقت عبثًا كما أوردنا سابقًا، وتلك الحالة العبثية لا مناص عن معالجتها بخطة بديلة، خطة قد تكون خُلقت من رحم الفوضى حقًا.

بدايةً استعانت الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بالبحث عن البدائل في اتجاهات أخرى سريعًا تحاشيًا للهيمنة الروسية.

استئناف العمل بمدينة ميدلفارت

بدأ الأمر باستئناف مشروع ضخم مخطط له مسبقًا منذ سنوات، لمد خط أنابيب غاز يربط ما بين النرويج –ثاني أكبر مصدر للغاز في أوروبا بعد روسيا– وصولًا إلى بولندا بموجب اتفاقية مسبقة.

كذلك بدأ العمل بشكل أكبر على المشروع الذي يُعد الأضخم ما بين دول البلقان، والتي كانت قد أعلنت في وقت سابق اتساقها مع قرارات الاتحاد الأوروبي ووقف استيراد الغاز نهائيًا من روسيا.

فقد تم استئناف العمل بمدينة ميدلفارت الواقعة بجزيرة فونين الدنماركية لبناء ما يعرف باسم خط البلطيق الشهر الماضي الذي يمتد لنحو 900 كيلومتر.

مُتوقع أن يبدأ تشغيله الأول من يناير العام المقبل، لسد احتياجات دول البلقان من الغاز الطبيعي.

إطلاق ثلاثة مشاريع لتركيب محطات للغاز الطبيعي

بذات السياق، أعادت ألمانيا إطلاق ثلاثة مشاريع لتركيب محطات للغاز الطبيعي المُسال لم تكن ذات أولوية مُسبقًا، ومن الممكن أن تتجهز منها واحدة في شتاء 2024، بينما وعلى أقرب تقدير يُحتمل الانتهاء من المشروعين الآخرين في نهاية 2026.

كذلك نرى في إسبانيا، وفنلندا، والبرتغال، وفرنسا مشاريعًا استثمارية ضخمة في نفس السياق، بدأ العمل عليها منذ لحظة إعلان العقوبات في أبريل الماضي على روسيا تحاشيًا للموقف المتأزم الحالي.

الاتجاه إلى السعودية والإمارات

ذلك رغم صعوبة إنجاز تلك المشاريع وطول المدة الزمنية المتوقعة للانتهاء منها، ما دعا الاتحاد الأوروبي للتصريح بأنه يمكن لدول الاتحاد الأوروبي عدم الاعتماد بشكل كُلي ونهائي على الغاز الطبيعي المستورد من الجانب الروسي.

حسنًا، لم يكن هذا كل شيء سعت إليه الدول الأوروبية لتعويض فروق النقص التي تسببت فيها الإجراءات التعسفية من جانب الدب الروسي.

بل حولت أنظارها باتجاه السعودية والإمارات لمُضاعفة حجم الغاز الطبيعي المستورد منهما، وسط تخوف وقلق من الدولتين على حجم الاحتياطي الاستراتيجي من الغاز.

ما دعا كثيرًا من الدول للبحث عن مصادر للغاز من خلال إبرام اتفاقيات مع الجزائر ونيجيريا لتصدير الغاز الطبيعي، ولكن لم يكن هذا أيضًا كل شيء.

غضب الدب الروسي ليس هينًا

خلافات بين وزراء الاتحاد الأوروبي حول أزمة الطاقة - على خط النار لا يحترق الدب الروسي

لم تكن الفوضى التي سببها الدب الروسي في أروقة الاتحاد الأوروبي هينة، بل كشفت عن عُري تام وضعف عام للموقف الأوروبي في مواجهة سيطرة الروس على سوق الطاقة واستحواذه على جانب كبير منه.

لذا هناك أيضًا مساعٍ مشتركة جديدة لاستكشاف قطاعات الطاقة النظيفة أو البديلة.

على أرض الواقع نرى قرارات من الحكومات بترشيد استهلاك الطاقة باتت واقعًا، بألمانيا مثلًا أصدرت الحكومة إعلانات توعوية لترشيد الطاقة، علاوةً على أن ثمة ولايات منعت حتى استخدام الماء الساخن في المرافق والحمامات العامة توفيرًا لطاقة تسخينها، وتم إطفاء الأضواء بالمعالم التاريخية والمتاحف العامة مبكرًا.

خطة ترشيد استهلاك الغاز في أوروبا تدخل حيز التنفيذ

كذلك نرى الحال في معظم الدول الأوروبية من خطابات مُوجهة إلى الشعوب بضرورة ترشيد استهلاك الطاقة من قبل الحكومات، وزيادة الوعي نحو القضية التي تُشكِّل خطرًا كبيرًا على الأمن القومي لشعوب أوروبا.

نرى أن التأثير الأكثر سيكون على المواطن الأوروبي في مواجهة أسعار ارتفاع الفواتير، وضرورة محافظته على مصادر الطاقة في الوقت الذي يحتاج فيه لأنظمة التدفئة.

إذ تتسم أوروبا بالبرودة الشديدة في فصل الشتاء، وتحتاج الشعوب إلى نظام تدفئة عالٍ مُعتمد على الغاز الطبيعي، والتخلّي عن هذا قد يكون مخاطرة كبرى، يُعيد أوروبا إلى عصور الظلام.

أزمة الطاقة قسمت أوروبا إلى أذكياء ومتواضعي الذكاء

على صعيدٍ آخر، ثمة صراع سياسي فكري أشد فتكًا يدور الآن بين الأروقة الأوروبية السياسية، منوط بالتخلخل الواضح أمام قرارات الاتحاد الأوروبي بشأن النفط الروسي.

فقد بيّن رد فعل الدب الروسي وتباين استجابة الدول الأوروبية له فروقًا واضحة في المواقف، بين الدول منفردة وبين القرارات الدبلوماسية الأوروبية التي أطلقها الاتحاد الأوروبي،

ليكون الصراع الأوروبي الروسي كاشفًا لحالة التخلخل التي يعيشها الاتحاد الأوروبي من داخله، وأظهر أيضًا مدى قوة وهيمنة روسيا مُؤقتًا على الأوضاع في مواجهة القوى السياسية المتباينة.

ربما أحيانًا تحتاج إلى دفعة قوية لترى ما تخبئ لك الغيوم، أو سقطة في مواجهة الخطر حتى تتخلّى عن منطقة الاستقرار لديك، ربما كل ما تحتاجه هو الفوضى.

المصادر

تقرير من الـBBC

shorturl.at/nOQRU

تقرير من العربية

shorturl.at/GW259

تقرير من الـCNN

shorturl.at/belQV

تقرير تليفزيوني عبر قناة الشرق الإخبارية

shorturl.at/fjlM3

تقرير من موقع RT ARABIA

shorturl.at/ehm38

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

**********

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ. مصطفى محمود حسن

باحث وكاتب روائي

مقالات ذات صلة