قضايا وجودية - مقالاتمقالات

العقل ومدارس الفلسفة الإسلامية .. الجزء الثامن

المدرسة المشَّائية: (6) الفارابي: المعلم الثاني وفيلسوف المسلمين

“آراء أهل المدينة الفاضلة” (2)

تحدثنا –صديقي القارئ صديقتي القارئة– في الدردشة السابقة (ج7)، عن أول الآراء التي يجب على أهل المدينة –لكي تكون مدينتهم فاضلة سعيدة– أن يعرفوها عن سبب وجودهم، وفي معرفتهم له تعالى سببُ سعادتهم وسببُ جعل مدينتهم فاضلةً وسعيدة. ولنواصل –في هذه الدردشة– الكلام عن فلسفة الفارابي الفيضية، التي يجب على أهل المدينة الفاضلة معرفتها.

الميتافيزيقا الفيضية: صدور الكائنات عن الأول

أ. التفسير العقلي لوجود الكثرة (جميع الكائنات) عن الواحد (الأول)

حاول الفارابي رسم صورة عقلية للوجود، واجتهد لتفسير الخلق، أي تفسير صدور الكثرة (عالمنا) عن الواحد الأول تعالى، وحاول عن طريق نظرية الفيض تعقل ظاهرة النبوة والوحي، بقوله: “إن النبي يتصل بالعقل الفعَّال ويتلقى الوحي من خلاله”. ولنعرض –باختصار– لتينك الفكرتين.

إن غرضَ الفارابي هو تعريف الناس بالآراء الفلسفية التي تجعل من مدنهم فاضلة، وسعيدة، وتجعل منهم فضلاء سعداء خالدين.

كان الأمر الأول هو معرفتهم بالحق الأول تعالى وصفاته. والشيء الثاني الذي ينبغي عليهم معرفته هو كيف صدرت الموجودات عن الأول تعالى؟ أي ما يعرف بنظرية “الفيض” عند الفارابي.

القول في الموجودات التي ينبغي أن يعتقد فيها أنها هي الملائكة

إن وجود باقي الكائنات يتبع حتمًا وجود الأول، وهي فيض منه، وهو لا ينقص شيئًا من الأول ولا يزيد إليه كمالًا. والكائنات الفائضة منه متصلة بعضها ببعض، وصادرة بعضها عن بعض وتلك هي نظرية فيض العقول (أو الملائكة) عن الأول عند الفارابي.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

آراء أهل المدينة الفاضلة

نظرية فيض العقول: من العقل الأول إلى العقل الحادي عشر المسمى بالعقل الفعَّال

من الأول يفيض العقلُ الثاني الذي هو أيضًا جوهرٌ لا مادي، وعقلٌ خالص، يعقل ذاته ويعقل الأول، ومن هذا التعقل المزدوج تصدر باقي العقول؛ ينتج عن الأول العقل الثاني ثم العقل الثالث والرابع والخامس والسادس والسابع والثامن والتاسع والعاشر والحادي عشر المسمى بالعقل الفعَّال، وهي الموجودات التي تشكل عالم ما فوق فلك القمر.

تصدر عن هذه العقول الأفلاكُ الثابتةُ والمتحركةُ وعددها سبعة (زحل، المشتري، المريخ، الشمس، الزهرة، عطارد، القمر). والعقول الأحد عشر عقولًا لا مادية، وكل واحد من هذه العقول يعقل ذاته ويعقل الأول، وفي ذلك سعادة هذه العقول، وجسم الأفلاك من عنصر غير فاسد.

عناصر عالم الكون والفساد (أي الوجود والعدم) تتبع عالم ما دون فلك القمر، عالم الهيولى (المادة) الأولى ثم العناصر الأربعة: الماء والهواء والنار والتراب، ومن فعل كل عنصر على الآخر، ومن فعل الأجسام السماوية عليها، تظهر الأخلاط، ومن اتحاد الأخلاط بالعناصر تنتج الأجسام المختلفة؛ النبات، والحيوانات، والإنسان. وكلها ناتجة عن العقل الفعَّال الذي يسمى بواهب الصور، وكلها قابلة للفساد لأنها توجد في عالم الفساد: عالم ما تحت فلك القمر.

العقل الفعَّال مفارقٌ للإنسان، ويجعله يدرك المعقولات، أي هو الذي تتصل به نفسُ الإنسان فتتلقى عنه المعقولات، فتصير عقلًا بالفعل، بعد أن كانت عقلًا بالقوة. وفعل العقل الفعَّال شبيه بفعل الشمس في البصر (أي كما أن العين لا تبصر إلا في النور، فكذلك العقلُ لا يعقل إلا إذا اتصل بالعقل الفعَّال فتحصل فيها المعقولات، فلذلك سمي العقلُ الحادي عشر بالعقل الفعَّال، لأنه يفعل، “يضيء” في عقل الإنسان “بصره الداخلي” ويجعله يدرك المعقولات). وتتصل بالعقل الفعَّال كذلك نفسُ النبي فتتلقى عنه أسرارَ عالمِ الغيب.

خلاصة تأويلية:

آراء أهل المدينة الفاضلة

ذلكم هو علم الفلك الفيضي الميتافيزيقي، لا علم الفلك الحديث كما نعرفه اليوم، والذي “تحرر” من هذه التأملات العقلية. وإنْ كانَ يمكن أنْ يقالَ: إنما يتحدث الفارابي عن العقول أو الملائكة التي تدبر الكواكب، من زاوية ميتافيزيقة، لا عن الكواكب والأفلاك بما هي في حالتها الفيزيقية! لكنها كانت رؤيةً شعريةً جماليةً إلى الوجود، لا رؤية برهانية، ولا حتى جدلية.

تبقى اعتراضاتُ الفيلسوف ابن رشد صحيحةً: كيف يخرج الوجود من اللا وجود وكيف يخرج المادي من اللا مادي؟ لنقل –مع حسن حنفي– إنها طبيعيات إلهية، طبيعيات ميتافيزيقية، لا طبيعيات علمية، كأنه ليس ثمة فرقٌ بين الطبيعة وما بعد الطبيعة.

لكنها رؤيةٌ إنسانيةٌ تسعى إلى إدراكِ مُوْجِدها تعالى، فتتأمله، وتعرف أنه السبب الأول لكل وجود وأنه غاية كل موجود. وتلكم هي جوهر الحكمة الفارابية الفيضية الصوفية الحالمة المسقطة وَجْدَها وصوفيتَها على الطبيعة، رغم كل التناقضات المنطقية التي وقعت فيها، ورغم كل الانتقادات العقلية التي وُجهت إلى النظام الفلسفي الفارابي.

في الدردشة القادمة –بإذن الله– نواصلُ بقيَّةَ حديثنِا عن فلسفة المعلم الثاني: الفارابي، وكتابه “آراء أهل المدينة الفاضلة”، وفيها نتعرف التفسير العقلي لظاهرة النبوة.

مقالات ذات صلة: 

الجزء الأول من المقال، الجزء الثاني من المقال

الجزء الثالث من المقال، الجزء الرابع من المقال

الجزء الخامس من المقال، الجزء السادس من المقال

الجزء السابع من المقال

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*********

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ.د شرف الدين عبد الحميد

أستاذ الفلسفة اليونانية بكلية الآداب جامعة سوهاج