العقل ومدارس الفلسفة الإسلامية .. الجزء الواحد والأربعون
المدرسة المشَّائية: (39) ابن رشد وكتبه: "فصل المقال"، "مناهج الأدلة"، "تهافت التهافت"
الفلسفة والتأويل (7): جدل الظاهر والمؤول
تحدثنا –صديقي القارئ صديقتي القارئة– في الدردشة السابقة (ج 40) جدل الظاهر والمؤول (6): أ. الظاهر (ما لا يؤول) والباطن (ما يؤول) في الشرع. ولنواصل –في هذه الدردشة– مقاربتَنا التأويليةَ لفلسفة التأويل الرشدية: جدل الظاهر والمؤول.
ب. لماذا الشرع فيه الظاهر والباطن؟
اختلاف فطر الناس
يبين ابن رشد السبب في ورود الشرع فيه الظاهرُ والباطنُ: اختلافُ فِطَرِ الناس وتباينُ قرائحِهم (عقولهم وأذهانهم) في التصديق.
تنبيه الراسخين في العلم
كذلك السبب في ورود الظواهر المتعارضة فيه تنبيهُ الراسخين في العلم على التأويل الجامع بينها. وإلى هذا المعنى وردت الإشارة بقوله تعالى: “هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ” إلى قوله “وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ”.
الظاهر: الأمثال المضروبة للمعاني.. والباطن: المعاني في ذاتها
وأما الأشياء التي لخفائها لا تُعلم إلا بالبرهان فقد تلطف اللهُ فيها لعباده الذين لا سبيل لهم إلى البرهان. إما من قِبَل (من جهة) فطرهم وإما من قِبَل عادتهم وإما من قِبَل عدمهم أسباب التعلم، بأن ضرب لهم أمثالها وأشباهها، ودعاهم إلى التصديق بتلك الأمثال، إذ كانت تلك الأمثال يمكن أن يقعَ التصديقُ بها بالأدلة المشتركة للجميع: أعني الجدلية والخطابية. وهذا هو السبب في أن انقسم الشرع إلى ظاهر وباطن: فإن الظاهر هو تلك الأمثال المضروبة لتلك المعاني، والباطن هو تلك المعاني التي لا تتجلى إلا لأهل البرهان.
ج. معنى التأويل
التأويل كما يعرّفه ابن رشد: “إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية (كأن تقول لرجل: “أنت أسد!” وتقصد –بإخراجك لفظ الأسد من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية– أنه شجاع لا أن له لبدةً وذيلًا!) من غير أن يخل في ذلك بعادة لسان العرب في التجوز (= في استعمال المجاز) من تسمية الشيء بشبيهه (مثل قولك: فلان يتكلم بالدرر) أو بسببه (مثل قولك: السماء أمطرت نباتًا، أي المطر الذي هو سبب النبات)، أو لاحقه، أو مقارنه، أو غير ذلك من الأشياء التي عُددت في أصناف الكلام المجازي”.
وإذا كان الفقيه يفعل هذا في كثير من الأحكام الشرعية فكم بالحرّي (الأولى) أن يفعل ذلك صاحبُ علم البرهان (= الفيلسوف)، فإن الفقيه إنما عنده قياس ظني، والعارف (الفيلسوف) عنده قياس يقيني. ونحن نقطع قطعًا –يقول ابن رشد–: “أن كل ما أدى إليه البرهان وخالفه ظاهر الشرع، أن ذلك الظاهر يقبل التأويل على قانون التأويل العربي”.
هذه القضية لا يشك فيها مسلمٌ ولا يرتاب بها مؤمنٌ. وما أعظم ازدياد اليقين بها عند من زاول هذا المعنى وجربه وقصد هذا المقصد من الجمع بين المعقول والمنقول!
د. التأويل اجتهاد: لا إجماعَ في النظريات (المسائل الفلسفية، شؤون العقيدة)
يقسم ابن رشد الإجماع قسمين:
أ. إجماع يقيني.
ب. إجماع ظني.
شروط الإجماع اليقيني
والإجماع اليقيني لا يجوز خرقه (مخالفته)، أما الظني فيجوز خرقه. وعند ابن رشد حتى يكون الإجماع ضروريًا يجب توافرُ ستةِ شروط:
- أن يكونَ العصرُ الذي حدث فيه الإجماع محصورًا بالزمان والمكان.
- أن يكونَ العلماء جميعُهم الموجودين في ذلك العصر معلومين لدينا، أي أشخاصهم وأعدادهم.
- أن يُنقلَ إلينا مذهبُ كل عالمٍ نقلَ تواتر.
- أن يكونَ علماءُ ذلك العصر متفقين على أنه ليس في الشرع ظاهر أو باطن.
- أن العلمَ بكل مسألة يجب أن لا يُكتم عن أحد.
- أن يكونَ معروفًا أن الناس طريقُهم واحدٌ في فهم الشريعة.
ولا يوجد إجماع من إجماعات المسلمين حاز على هذه الشروط الستة، وبناء عليه فإن إجماعاتهم ليست يقينيةً، بل ظنيةً، أي يجوز خرقها (مخالفتها). والدليل على ذلك:
- لقد عُرف في الصدر الأول للإسلام أن هناك ظاهرًا وباطنًا في الشريعة.
- لقد عُلم أيضًا في الصدر الأول أن العلماء كانوا يعدون أن هناك أمورًا لا يجب أن يعرفها الجميع.
- يستحيل إحصاء العلماء كلهم في عصر من العصور.
- يستحيل أن ينقل إلينا رأيُ كل واحد منهم في كل مسألة نقل تواتر.
– إذًا ليس هناك من إجماعات يقينية، ومن ثم فإن إجماعات المسلمين كلها ظنية يجوز مخالفتها.
لا يُقطع بكفر من خرق الإجماع في التأويل
يقول ابن رشد: “فإن قال قائل: إن في الشرع أشياءَ قد أجمع المسلمون على جعلها على ظواهرها (على معانيها التي تسبق إلى فهم السامع من المعاني التي يحتملها اللفظ)، وأشياء على تأويلها، وأشياء اختلفوا فيها، فهل يجوز أن يؤدي البرهان إلى تأويل ما أجمعوا على ظاهره أو ظاهر ما أجمعوا على تأويله؟”.
يجيب ابن رشد: “إن الإجماع لا يتقرر في النظريات بطريق يقيني كما يمكن أن يتقرر في العمليات (= الفقهيات). لكن لو ثبت الإجماع بطريق يقيني فلا يصح تأويل ما أجمعوا على ظاهره أو ظاهر ما أجمعوا على تأويله، ولذلك قال أبو حامد (الغزالي) وأبو المعالي (الجويني) وغيرهما من أئمة النظر: إنه لا يُقطع بكفر من خرق الإجماع في التأويل في أمثال هذه الأشياء. فإن كان الإجماع ظنيًا –وهو الغالب في الأمور النظرية الفلسفية– إذ نُقل عن كثير من الصدر الأول أنهم كانوا يرون أن للشرع ظاهرًا وباطنًا، وأنه ليس يجب أن يعلم بالباطن من ليس من أهل العلم به ولا يقدر على فهمه –مثل ما روى البخاري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: “حدثوا الناس بما يعرفون أتريدون أن يُكذبَ اللهُ ورسوله؟!”، ومثل ما روى عن جماعة من السلف– فكيف يمكن أن يُتصورَ إجماعٌ منقولٌ إلينا عن مسألة من المسائل النظرية، ونحن نعلم قطعًا أنه لا يخلو عصر من الأعصار من علماء يرون أن في الشرع أشياء لا ينبغي أن يَعلَمَ بحقيقتها الناس جميعُهم؟ وذلك بخلاف ما عرض في العمليات (= الفقهيات): فإن الناس كلهم يرون إفشاءَها للناس جميعهم على السواء. ونكتفي بحصول الإجماع فيه بأن تنتشر المسألة فلا ينقل إلينا فيها خلاف. فإن هذا كافٍ في حصول الإجماع في العمليات بخلاف الأمر في النظريات”.
إذن: لا يجوز تكفير الفلاسفة لأنهم خرقوا إجماع المسلمين الظني.
والغزالي نفسه في كتابه “فيصل التفرقة” لم يقطع بكفر من خرق الإجماع، بل وضع ذلك في باب الاحتمال.
خلاصة تأويلية
ولماذا تكفير الفلاسفة؟ هل لأنهم في أقوالهم لم يكونوا على ظاهر الشرع؟ ومن قال إن المسلمين تطابقت أقوالهم في قدم العالم، وحشر الأجساد، وعلم الله، مع أقوال ظاهر الشرع؟ ومن قال إن ظاهر الشرع متوافق مع ما ذهب إليه الغزالي والمتكلمون؟!
في الدردشة القادمة –بإذن الله– نواصل رحلتنا التأويلية مع ابن رشد وكتبه: “فصل المقال”، “مناهج الأدلة”، “تهافت التهافت”: الفلسفة والتأويل: (8) جدل الظاهر والمؤول.
اقرأ أيضاً:
الجزء الأول، الجزء الثاني، الجزء الثالث، الجزء الرابع، الجزء الخامس
الجزء السادس، الجزء السابع، الجزء الثامن، الجزء التاسع، الجزء العاشر
الجزء الحادي عشر، الجزء الثاني عشر، الجزء الثالث عشر، الجزء الرابع عشر
الجزء الخامس عشر، الجزء السادس عشر، الجزء السابع عشر، الجزء الثامن عشر
الجزء التاسع عشر، الجزء العشرون، الجزء الواحد والعشرون، الجزء الثاني والعشرون
الجزء الثالث والعشرون، الجزء الرابع والعشرون، الجزء الخامس والعشرون
الجزء السادس والعشرون، الجزء السابع والعشرون، الجزء الثامن والعشرون
الجزء التاسع والعشرون، الجزء الثلاثون، الجزء الواحد والثلاثون
الجزء الثاني والثلاثون، الجزء الثالث والثلاثون، الجزء الرابع والثلاثون
الجزء الخامس والثلاثون، الجزء السادس والثلاثون، الجزء السابع والثلاثون
الجزء الثامن والثلاثون، الجزء التاسع والثلاثون، الجزء الأربعون
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا