العقل ومدارس الفلسفة الإسلامية .. الجزء التاسع والثلاثون
المدرسة المشَّائية: (37) ابن رشد وكتبه "فصل المقال"، "مناهج الأدلة"، "تهافت التهافت"
الفلسفة والتأويل: (5) دفاعًا عن الفلسفة ضد مكفريها تأويلًا
تحدثنا –صديقي القارئ صديقتي القارئة– في الدردشة السابقة (ج 38) دفاعًا عن الفلسفة ضد مكفريها تأويلًا (4): ب. علوم المنطق: واجبةٌ بالشرع. ج. النظر في كتب القدماء: واجبٌ بالشرع. ولنواصل –في هذه الدردشة– مقاربتَنا التأويليةَ لفلسفة التأويل الرشدية: دفاعًا عن الفلسفة ضد مكفريها تأويلًا.
د. الفلسفة والمنطق: ليسا بدعةً
يقرر ابن رشد: “وليس لقائل أن يقول إن هذا النوع من النظر في القياس العقلي بدعة، إذ لم يكن في الصدر الأول، فإن النظر أيضًا، في القياس الفقهي وأنواعه، هو شيء استُنبط بعد الصدر الأول، وليس يُرى أنه بدعة. فكذلك يجب أن يُعتقد في النظر في القياس العقلي.
إذًا:
– الفلسفة والمنطق ليسا بدعة في الشرع.
ه. النهي عن الفلسفة والمنطق: غاية الجهل
فقد تبين من هذا أن النظر في كتب القدماء واجب بالشرع –إذ كان مغزاهم في كتبهم ومَقْصِدهم المَقْصِدُ الذي حثنا الشرع عليه– وأن من نهى عن النظر فيها (أي في الفلسفة) من كان أهلًا للنظر فيها، وهو الذي جمع أمرين: أحدهما ذكاء الفطرة. والثاني: العدالة والفضيلة العلمية والخلقية، فقد صدَّ الناسَ عن الباب الذي دعا الشرعُ منه الناسَ إلى معرفة الله، وهو باب النظر المؤدي إلى معرفته حق المعرفة. وذلك غاية الجهل والبعد عن الله تعالى.
إذًا:
– النهي عن الفلسفة والمنطق غاية الجهل لأنه صدٌ عن سبيل الله.
و. إن غوى –بسبب الفلسفة– غاوٍ فلشيءٍ لحقها بالعَرَض لا بالذات
يقول ابن رشد: “وليس يلزم من أنه إن غوى غاوٍ بالنظر فيها (الفلسفة) وزلَّ زالٌّ، إما من قِبَل (من جهة) نقص فطرته وإما من قِبَل سوء ترتيب نظره فيها أو من قبيل غلبة شهواته عليه، أو أنه لم يجد معلمًا يرشده إلى فهم ما فيها، أو من قِبَل اجتماع هذه الأسباب فيه أو أكثر من واحد منها، أن نمنعها عن الذي هو أهل للنظر فيها. فإن هذا النحو من الضرر الداخل من قِبَلها هو شيء لحقها بالعرض لا بالذات. إن مثل من منع النظر في كتب الحكمة (الفلسفة) من هو أهل لها من أجل أن قومًا من أراذل الناس قد يُظَنُ بهم أنهم ضلوا من قِبَل نظرهم فيها مَثَلُ من منع العطاشى من شرب الماء البارد العذب حتى ماتوا من العطش، لأن قومًا شرقوا به فماتوا، فإن الموت عن الماء بالشَرَق أمرٌ عارضٌ وعن العطش أمر ذاتي وضروري”.
في كل صناعة يوجد من يخطئ ويسيء ويضل وليس الفلسفة بدعًا في ذلك
وفي ذلك يصرح ابن رشد: “وكم من فقيه كان الفقهُ سببًا لقلة تورعه وخوضه في الدنيا! بل أكثر الفقهاء كذلك نجدهم، وصناعتهم إنما تقتضي بالذات الفضيلةَ العمليةَ، فإذًا لا يبعد أن يعرض (أي أن يضل) مثل هذا في الصناعة التي تقتضي الفضيلة العلمية (أي الفلسفة) كما عرض (أي كما يضل) في الصناعة التي تقتضي الفضيلة العملية (أي علم الفقه)”. يريد ابن رشد أن يقول: كما أن هناك من يضل من الفلاسفة هناك من يضل من الفقهاء. وكما لا يُحرمُ الفقهُ بسبب ضلال أحد من المنتسبين إلى الفقه، كذلك ينبغي ألا نحرِم الفلسفةَ بسبب ضلال أحد المنتسبين إليها وإذا فعلنا ذلك سنكون كمن منع شرب الماء البارد لأن أحدًا من الناس شرب ماءً باردًا فمات منه!
إذًا:
– ليس يلزم إن غوى غاوٍ أنْ نمنعَ الفلسفةَ عمن هو أهلٌ لها.
– من غوى، بسبب الفلسفة، فلشيء لحقها بالعَرَض لا بالذات.
– في كل صناعة يوجد من يضل.
– الفلسفة نافعةٌ بالذات.
ز. حقيقةٌ واحدةٌ لا حقيقتين: الحقُ لا يضاد الحقَ
ويواصل فقيه قرطبة وفيلسوفها: “وإذا تقرر هذا كله، وكنا نعتقد معشر المسلمين أن شريعتنا هذه الإلهية حق، وأنها التي نبهت على هذه السعادة ودعت إليها، التي هي (= السعادة) المعرفة بالله عز وجل وبمخلوقاته، وأن ذلك متقررٌ عند كل مسلم من الطريق الذي اقتضته جبلته وطبيعته من التصديق:
– وإذا كانت طباعُ الناس مختلفةً في التصديق:
أ. فمنهم من يصدق البرهان، أي البرهانيون.
ب. ومنهم من يصدق بالأقاويل الجدلية، أو الجدليون.
ج. ومنهم من يصدق بالأقاويل الخطابية، أي الخطابيون.
– وذلك أنه لما كانت شريعتنا، هذه الإلهية، قد دعت الناسَ من هذه الطرق الثلاث عمَّ التصديقُ بها كلَ إنسان إلا من يجحدها عنادًا بلسانه، ولذلك خُصَّ عليه السلام بالبعث إلى الأحمر والأسود أعني –يقول ابن رشد– لتضمن شريعته طرقَ الدعاء إلى الله تعالى، وذلك صريح قوله تعالى: “ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن”.
وإذا كانت هذه الشريعة حقًا وداعيةً إلى النظر المؤدي إلى معرفة الحق (أي الفلسفة)، فإنا معشرَ المسلمين نعلم على القطع أنه: لا يؤدي النظر البرهاني إلى مخالفة ما ورد به الشرع: فإن الحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له”.
إذًا:
– الحق (= الفلسفة) لا يضاد الحق (= الشريعة)، بل يوافقه ويشهد له.
– الحكمةُ: صاحبةُ الشريعة والأختُ الرضيعة، المصطحبتانِ بالطبع، المتحابتانِ بالجوهرِ والغريزة.
– والحكمة: النظر في الأشياء وفق ما تقتضيه طبيعةُ البرهان.
– والشرع قد أوجب النظر بالعقل في الموجودات واعتبارها.
– وإذا كانت الطرق إلى الحقيقة متعددة، إلا أنها –في ذاتها– واحدةٌ لا تعدد فيها.
خلاصة تأويلية
التأويل تقولًا: رد ابن رشد دعوى تكفير الغزالي للفلسفة (الذي كان يتصيد التأويلاتِ تصيدًا) رد القاضي النزيه وخلاصة رأيه: أن الإمام الغزالي قد تقوَّل على الفلاسفة تأويلًا يخرجهم من الملة وهم الذين آمنوا بالله ورسوله وكتابه وشرعه! وقد اعتذر ابن رشد عن الغزالي وعذره في مواضع كثيرة. وكان تأليف الغزالي لكتابه “تهافت الفلاسفة” للعامة واستتباعًا لهم (وسلطة العامة أكبر من أي سلطة!)، في فترة طلب الجاه وانتشار الصيت، وفي فترة شكه، كما اعترف الغزالي نفسه بذلك، ولم يكن طلبًا لوجه الله، بل وجهَ الرؤساء والحكام الذين كان يهمهم نشر مذهبهم، لأن قيام دولتهم متوقفة على نشر المذهب، فكان يتلطف لإقناع الجمهور بشتى الحيل، ليحفظ عقيدةَ العامة عن التشويش بأفكار الفلاسفة. أما الأفكار ذاتها فلا تفيد نصوص الغزالي أنها باطلة في ذاتها، بل المدهش أن المسائل التي كفر فيها الغزالي الفلاسفة تأويلًا، يمكن أن تُستنبط مما قاله هو نفسه بها، وذلك في كتبه المسماة “المضنون بها على غير أهلها”، وقد يكون منها كتابه “معارج القدس” (راجع كتاب “الحقيقة في نظر الغزالي”، لسليمان دنيا). لقد عاب الغزالي على علوم هو مؤلفٌ فيها وانتقد آراء نادى هو بها في كتبه التي كتبها للخاصة، وعادى فيلسوفًا كبيرًا كابن سينا ونقده نقدًا مرًا، في الوقت ذاته الذي تأثر الغزالي خطى ابن سينا تأثرًا كبيرًا!
لكن هل ظفر الغزالي بما كان يتمنى؟ الواقع إنه اُضطهدَ كما اُضهدَ ابن رشد من بعده، وعُودِي وأحرقت كتبه! وكم كان الغزالي فيلسوفًا عقليًا يحارب الفلاسفة بالعقل حين يخرجون عن العقل!
في الدردشة القادمة –بإذن الله– نواصل رحلتنا التأويلية مع ابن رشد وكتبه “فصل المقال”، “مناهج الأدلة”، “تهافت التهافت”: الفلسفة والتأويل: (6) جدل الظاهر والمؤول.
اقرأ أيضاً:
الجزء الأول، الجزء الثاني، الجزء الثالث، الجزء الرابع، الجزء الخامس
الجزء السادس، الجزء السابع، الجزء الثامن، الجزء التاسع، الجزء العاشر
الجزء الحادي عشر، الجزء الثاني عشر، الجزء الثالث عشر، الجزء الرابع عشر
الجزء الخامس عشر، الجزء السادس عشر، الجزء السابع عشر، الجزء الثامن عشر
الجزء التاسع عشر، الجزء العشرون، الجزء الواحد والعشرون، الجزء الثاني والعشرون
الجزء الثالث والعشرون، الجزء الرابع والعشرون، الجزء الخامس والعشرون
الجزء السادس والعشرون، الجزء السابع والعشرون، الجزء الثامن والعشرون
الجزء التاسع والعشرون، الجزء الثلاثون، الجزء الواحد والثلاثون، الجزء الثاني والثلاثون
الجزء الثالث والثلاثون، الجزء الرابع والثلاثون، الجزء الخامس والثلاثون
الجزء السادس والثلاثون، الجزء السابع والثلاثون، الجزء الثامن والثلاثون
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا