العقل ومدارس الفلسفة الإسلامية .. الجزء الثالث والثلاثون
المدرسة المشّائية: (31) ابن طفيل وكتابه "حيّ بن يقظان": تطور الوعي الإنساني
من الحس إلى العقل إلى الحدس: رحلة العقل نحو الله (6): مراحل تطور الوعي الإنساني (المرحلة الخامسة)
المرحلة الخامسة: الوعي الحدسي: مرحلة الحدس بالإيمان
من الثامن والعشرين إلى الخامس والثلاثين، مرحلة الإيمان.
من المصنوع إلى الصانع، ومن العالم الأدنى المحسوس إلى العالم الأعلى المعقول
وانتهت به المعرفة إلى هذا الحد وهو في الخامسة والثلاثين، وقد رسخ في قلبه من أمر الفاعل، ما شغله عن الفكرة في كل شيء إلا فيه (في الله تعالى)، وذهل عما كان فيه من تصفح الموجودات، والبحث عنها، حتى صار بحيث لا يقع بصره على شيء من الأشياء، إلا ويرى فيه أثر الصنعة من حينه، فينتقل بفكره على الفور إلى الصانع، ويترك المصنوع، حتى اشتد شوقه إليه، وانزعج قلبه بالكلية عن العالم الأدنى المحسوس، وتعلق بالعالم الأعلى المعقول.
نظرية المعرفة من الحواس الى الخيال إلى وسيلة أخرى لم يسمها ابن طفيل حتى الآن
فلما حصل له بهذا الموجود الرفيع الثابت الوجود، الذي لا سبب لوجوده، وهو سبب جميع الأشياء، أراد أن يعلم بأي شيء حصل له على هذا العلم، وبأي قوة أدرك هذا الموجود؟ فتصفح حواسه كلها، وهي: السمع والبصر والشم والذوق واللمس (= الحواس الخمس)، فرأى أنها كلها لا تدرك شيئًا إلا جسمًا أو ما هو في جسم، وقد تبين أن هذا الواجب الوجود بريء من صفات الأجسام من جميع الجهات، فإذًا لا سبيل إلى إدراكه إلا بشيء ليس بجسم، ولا هو قوة في جسم، وقد كان تبين له أن إدراكه بذاته (ذات حي بن يقظان)، ورسخت المعرفة به عنده فرأى أنّ ذاته هذه التي أدركه بها أمرٌ غير جسماني، لا يجوز عليه شيءٌ من صفات الأجسام، وأن كل ما يدركه من ظاهر ذاته من الجسميات، فإنها ليست حقيقة ذاته، وإنما حقيقة ذاته ذلك الشيء الذي أدرك به الوجود المطلق، الواجب الوجود، فهان عليه جسمه وجعل يتفكر في تلك الذات الشريفة (النفس أو الروح) التي أدرك بها ذلك الموجود الشريف الواجب الوجود.
خلود النفس
وجعل يتفكر في تلك الذات الشريفة، هل يمكن أن تبيد أو تفسد أو تضمحل، أو هي دائمة البقاء؟ فرأى أن الفساد والاضمحلال، إنما من صفات الأجسام، وهي ليست بجسم فلا يتصور فسادها البتة.
كمال الوعي الإنساني
وتبين له أن كمال ذاته ولذتها، إنما بمشاهدة ذلك الموجود الواجب الوجود على الدوام، مشاهدةً بالفعل أبدًا، حتى لا يعرض عنه طرفة عين، لكي توافيه منيته وهو في حال المشاهدة بالفعل، فتتصل لذته دون أن يتخللها ألم، ثم جعل يتفكر: كيف يتأتى له دوام هذه المشاهدة بالفعل، حتى لا يقع منه إعراض؟
النفس: العارف والمعروف والمعرفة، العالم والمعلوم والعلم
ففحص الجمادات والنباتات والحيوانات والأفلاك السماوية ووصل إلى أن: أشرف جزأيه الشيء الذي عرف به الموجود الواجب الوجود، وهذا الشيء العارف أمرٌ رباني إلهي، لا يستحيل ولا يلحقه الفساد، ولا يوصف بشيء مما توصف به الأجسام، ولا يدرك بشيء من الحواس، ولا يتخيل، ولا يتوصل إلى معرفته بآلة سواه، بل يتوصل به، فهو العارف والمعروف والمعرفة، والعالم والمعلوم والعلم.
الأغراض ثلاثة: فلسفة الأخلاق عند ابن طفيل
وفحص الأفعال التي يجب عليه أن يفعلها، نحو ثلاثة أغراض: الأول: عمل يتشبه به الحيوان غير الناطق، وهو البدن المظلم وفيه يقتصر على الحد الأدنى من المأكل والمشرب والمأوى، الذي يحفظ عليه حياته، والثاني: عمل يتشبه بالأجسام السماوية، وهو الروح الحيواني، وهو على ثلاثة أضرب: أوصافٌ لها بالإضافة إلى ما تحتها من عالم الكون والفساد، وهي ما تعطيه الأجسام السماوية من التسخين والتبريد والإضاءة والتلطيف والتكثيف، وغيرها من الأمور التي يستعد لفيضان الصور الروحانية عليه، من عند الفاعل الواجب الوجود.
فلسفة البيئة عند ابن طفيل جزء من فلسفة الأخلاق
وفي هذا الضرب الأول يقدم لنا ابن طفيل أصول ومبادئ فلسفة البيئة المعاصرة، قبل أن تعرف بهذا الاسم في عصرنا الحديث، فرأى أن فلسفة البيئة ملزمة إلزامًا أخلاقيًا: فألزم نفسه أن لا يرى ذا حاجة أو عاهة أو مضرة، أو ذا عائق من الحيوان والنبات، وهو يقدر على إزالتها عنه، إلا ويزيلها، فمتى وقع بصره على نبات قد حجبه عن الشمس حاجبٌ، أو تعلق به نباتٌ آخر يؤذيه، أو عطش يكاد يفسده، أزال عنه ذلك الحاجب، وتعهده بالسقي ما أمكنه، ومتى وقع بصره على حيوان قد أرهقه صبعٌ (حيوان وقع بين تشابك الأغصان المتسلقة، فأرهقه الخلاص منها)، أو نشب به ناشبٌ، أو تعلق به شوكٌ، أو سقط في عينيه أو أذنيه شيءٌ يؤذيه، أو مسّه ظمأٌ أو جوعٌ، تكفل بإزالة ذلك كله عنه جهده، وأطعمه وأسقاه، ومتى وقع بصره على ماء يسيل إلى سقي نبات أو حيوان، وقد عاقه عن ممره ذلك عائق، من حجر سقط فيه أو جرف انهار عليه، أزال ذلك كله عنه، وما زال يمعن في ذلك النوع من ضروب التشبه حتى بلغ فيه الغاية.
الضرب الثاني
أوصاف لها في ذاتها، مثل كونها شفافة ونيرة، وطاهرة منزهة عن الكدر وضروب الرجس، ومتحركة بالاستدارة بعضها على مركز نفسها، وبعضها على مركز غيرها، فكان تشبهه بها فيه أن ألزم نفسه دوام الطهارة، وإزالة الدنس والرجس عن جسمه، والاغتسال بالماء في أكثر الأوقات، وتنظيف ما كان من أظفاره وأسنانه ومغابن بدنه، وتطييبها بما أمكنه من طيب النبات وصنوف الدهون العطرة، وتعهده لباسه بالتنظيف والتطييب، حتى يتلألأ حسنًا وجمالًا ونظافة وطيبًا.
والتزم مع ذلك ضروب الحركة على الاستدارة، فتارة كان يطوف بالجزيرة، وتارة ببيته، أدوارًا معدودة، إما مشيًا وإما هرولةً، وتارة يدور على نفسه، حتى يغشى عليه (كما يفعل المولوية أتباع مولانا جلال الدين الرومي، الذي كان يقول: لا يفنى في الله، من لم يعرف قوة الرقص!).
الضرب الثالث
أوصاف لها (أي الأجرام السماوية) بالإضافة إلى الموجود الواجب الوجود، مثل كونها تشاهده مشاهدة دائمة، ولا تعرض عنه، وتتشوق إليه، وتتصرف بحكمه، وتتسخر في تتميم إرادته، ولا تتحرك إلا بمشيئته وفي قبضته، فكان تشبهه بها فيه، أن كان يلازم الفكرة في ذلك الموجود الواجب الوجود، ثم يقطع علائق المحسوسات ويغمض عينيه ويسد أذنيه، ويضرب جهده عن تتبع الخيال، ويروم بمبلغ طاقته أن لا يفكر في شيء سواه، ولا يشرك به أحدًا.
والثالث: عمل يتشبه بواجب الوجود، وهي الذات. وهذ هو الكمال الإنساني: التشبه بواجب الوجود واتحاد الذات بالموضوع: فناء الذات
وانتهى إلى أن كماله في التشبه بواجب الوجود، والتشبه العالي الذي تحصل به المشاهدة الصرفة، والاستغراق المحض، الذي لا التفات فيه بوجه من الوجوه إلا إلى الموجود الواجب الوجود، وذلك يتم بأن يلازم الفكرة في ذلك الموجود، ثم يقطع علائق المحسوسات، حتى تغيب عن ذكره وفكره جميع الذوات، فلا يرى إلا الواحد الحي القيوم، هنالك رأى ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ولا يصفه الواصفون، ولا يعقله إلا الواصلون العارفون!
خلاصة
في هذه المرحلة الخامسة، ينتقل الوعي من التركيز على الطبيعة إلى التركيز على الفكر، وليس على الطبيعة، ويبدأ تحول الوعي من العقل إلى الحدس: في كل شيء دليلٌ عليه تعالى، ينتهي العلم ويبدأ التصوف، وتتحول الفلسفة العقلية الصرفة، إلى تصوف فلسفي خالص.
في الدردشة القادمة –بإذن الله– نواصل رحلتنا التأويلية مع بقية مراحل تطور الوعي الإنساني عند ابن طفيل: ابن طفيل وكتابه “حي بن يقظان”: تطور الوعي الإنساني: من الحس إلى العقل إلى الحدس: رحلة العقل نحو الله (7): مراحل تطور الوعي الإنساني (المرحلة السادسة: حركة الوعي في المجتمع: دعوة الوعي غيره إلى اليقظة).
اقرأ أيضاً:
الجزء الأول، الجزء الثاني، الجزء الثالث، الجزء الرابع، الجزء الخامس
الجزء السادس، الجزء السابع، الجزء الثامن، الجزء التاسع، الجزء العاشر
الجزء الحادي عشر، الجزء الثاني عشر، الجزء الثالث عشر، الجزء الرابع عشر
الجزء الخامس عشر، الجزء السادس عشر، الجزء السابع عشر، الجزء الثامن عشر
الجزء التاسع عشر، الجزء العشرون، الجزء الواحد والعشرون
الجزء الثاني والعشرون، الجزء الثالث والعشرون، الجزء الرابع والعشرون
الجزء الخامس والعشرون، الجزء السادس والعشرون، الجزء السابع والعشرون
الجزء الثامن والعشرون، الجزء التاسع والعشرون، الجزء الثلاثون
الجزء الواحد والثلاثون، الجزء الثاني والثلاثون
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا