قضايا وجودية - مقالاتمقالات

العقل ومدارس الفلسفة الإسلامية .. الجزء الثاني والثلاثون

المدرسة المشّائية: (30) ابن طفيل وكتابه "حيّ بن يقظان": تطور الوعي الإنساني

من الحس إلى العقل إلى الحدس: رحلة العقل نحو الله (5): مراحل تطور الوعي الإنساني (المرحلة الرابعة)

المرحلة الرابعة: الوعي العقلي: المرحلة الفلسفية

المرحلة الرابعة من مراحل تطور الوعي الإنساني، عند حيّ بن يقظان، هي مرحلة الرجولة، من الواحد والعشرين إلى الثامنة والعشرين. وفيها:

دليل الحدوث

نظر حيّ بن يقظان في ارتباط الموجودات فعلم بالضرورة أن كل حادث لا بد له من محدث، وتتبع الصور التي كان عاينها من قبل صورةً صورة، فرأى أنها كلها حادثة وأيضًا لا بد لها من فاعل، ولاح له أن الأفعال الصادرة عنها ليست في الحقيقة لها، وإنما لفاعل مختار يفعل بها الأفعال المنسوبة إليها.

الحدوث أم القدم

فلما لاح من أمر هذا الفاعل ما لاح على الإجمال دون تفصيل، فلما تبين له أن الكون كله كشخص واحد في الحقيقة، وأنه محتاج إلى فاعل مختار، تساءل: هل هو شيء حدث بعد أن لم يكن، وخرج إلى الوجود بعد العدم؟ أو هو أمر كان موجودًا فيما سلف ولم يسبقه العدم بوجه من الوجوه؟ فتشكك في ذلك، ولم يترجح عنده أحد الحكمين على الآخر.

اعتراضات على قدم العالم

فرأى أنه إن اعتقد قدم العالم، وأن العدم لم يسبقه، وأنه لم يزل كما هو، اعترضته عوارض كثيرةٌ من استحالة وجود ما لا نهاية له، بمثل القياس الذي استحال عنده وجود جسم لا نهاية له! وكذلك أيضًا كان يرى أن هذا الوجود لا يخلو من الحوادث، فهو لا يمكن تقدمه عليها، وما لا يمكن أن يتقدم على الحوادث، فهو أيضًا محدث! فإنه يلزم عن ذلك أن حركته قديمة لا نهاية لها من جهة الابتداء.

اعتراضات على حدوث العالم

وإن اعتقد حدوث العالم، وخروجه إلى الوجود بعد العدم، اعترضته عوارض أخرى. وذلك أنه كان يرى أن معنى حدوثه –بعد أن لم يكن– لا يفهم إلا على معنى أن الزمان تقدمه، والزمان من جملة العالم، وغير منفك عنه، فإذن لا يفهم تأخر العالم عن الزمان. وكذلك كان يقول: إذا كان حادثًا فلا بد له من محدث، وهذا المحدث الذي أحدثه، لم أحدثه الآن، ولم يحدثه من قبل؟ ألطارئ طرأ عليه –ولا شيء هنالك غيره– أم لتغير حدث في ذاته؟ فإن كان فما الذي أحدث ذلك التغير؟ وما زال يفكر في ذلك عدة سنين، فتتعارض عنده الحجج، ولا يترجح عنده أحد الاعتقادين على الآخر.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

النتيجة واحدة: وجود فاعل مختار

فلما أعياه ذلك، جعل يتفكر: ما الذي يلزم عن كل واحد من الاعتقادين، فلعل اللازم عنهما يكون شيئًا واحدًا؟ فرأى أنه إن اعتقد قدم العالم، وأن العالم لم يسبقه، وأنه لم يزل كما هو، فإن اللازم عن ذلك أن حركته قديمة لا نهاية لها من جهة الابتداء، إذ لم يسبقها سكون يكون مبدؤها منه. وكل حركة فلا بد لها من محرك ضرورة، ولا بد أن يكون المحرك لا متناهيًا، ويلزم لذلك أن يكون بريئًا عن المادة والأجسام، وغير موصوف بشيء من أوصاف الجسمية. ورأى أنه إن اعتقد حدوث العالم وخروجه من الوجود بعد العدم، يلزم عن ذلك ضرورة أنه لا يمكن أن يخرج إلى الوجود بنفسه، وأنه لا بد له من فاعل يخرجه إلى الوجود، وأنه لو كان جسمًا من الأجسام لاحتاج إلى محدث وتسلسل ذلك إلى غير نهاية، وهو (أي التسلسل) باطل. وإذن فلا بد للعالم من فاعل بريء عن المادة.

صفات الفاعل المختار

فانتهى نظر حي بن يقظان –بكلا الطريقين– إلى نفس النتيجة، ولم يضره في ذلك تشككه في قدم العالم أو حدوثه، وصح له على الوجهين جميعًا وجود فاعلٍ غير جسم، ولا متصل بجسم، ولا منفصل عنه، ولا داخل فيه، ولا خارج عنه، والاتصال والانفصال، والدخول والخروج كلها من صفات الأجسام، وهو منزه عنها. وقد وصف ابن طفيل الفاعل المختار بكل صفات الكمال، والتمام، والحسن، والبهاء، والقدرة، والعلم، والهو هو، ونفى عنه كل صفات النقص.

إثبات الصورة

ولما كانت المادة من كل جسم، مفتقرةً إلى الصورة. إذ لا تقوم إلا بها، ولا تثبت لها حقيقةٌ دونها، وكانت الصورة لا يصح وجودها، إلا من فعل هذا الفاعل، وأنه لا قيام لشيء منها إلا به، فهو إذن علّةٌ (سبب) لها، وهي معلولة له (موجودة بسببه)، سواءٌ كانت محدثة الوجود بعد أن سبقها العدم، أو كانت لا ابتداء لها من جهة الزمان، ولم يسبقها العدم قط، فإنها على كلا الحالين معلولةٌ ومفتقرةٌ إلى الفاعل، متعلقةٌ به، ولولا دوامه لم تدم، ولولا وجوده لم توجد، ولولا قدمه لم تكن قديمةً، وهو في ذاته غنيٌ عنها وبريءٌ منها.

وكيف لا يكون كذلك؟ وقد تبرهن أن قدرته وقوته غير متناهية، وأن جميع الأجسام وما يتصل بها أو يتعلق بها، ولو بعض تعلق، هو متناهٍ منقطعٌ، فإذًا العالم كله بما فيه من السماوات والأرض والكواكب، وما بينها وما فوقها وما تحتها، فعله وخلقه ومتأخر عنه بالذات وإن كان غير متأخر عنه بالزمان، كما أنك إذا أخذت في قبضتك جسمًا من الأجسام، ثم تحركت يدك فإن ذلك الجسم لا محالة، يتحرك تابعًا لحركة يدك، حركة متأخرة عن حركة يدك، تأخرًا بالذات، وإن كانت لم تتأخر بالزمان عنها، بل كان ابتداؤها معًا، فكذلك العالم كله: معلولٌ ومخلوقٌ لهذا الفاعل بغير زمان “إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ” (سورة يس، آية 82).

خلاصة

في هذه المرحلة الرابعة من مراحل الوعي، ينتقل حي بن يقظان من الأرض إلى السماء، ومن العالم الأصغر (الإنسان) إلى العالم الأكبر (الكون)، وتظهر مقولات المعرفة مثل: الحيرة والشك واليقين، وأفعال الشعور التأملي: التفكير والرأي والنقل والحكم والاستدلال والبرهان، حتى اهتدى الوعي إلى فكرة الخالق فآمن بإله واحد له الصفات اللا متناهية.

في الدردشة القادمة –بإذن الله– نواصل رحلتنا التأويلية مع بقية مراحل تطور الوعي الإنساني عند ابن طفيل: ابن طفيل وكتابه “حي بن يقظان”: تطور الوعي الإنساني: من الحس إلى العقل إلى الحدس: رحلة العقل نحو الله (6): مراحل تطور الوعي الإنساني (المرحلة الخامسة: الوعي الحدسي: مرحلة الحدس بالإيمان).

اقرأ أيضاً: 

الجزء الأول، الجزء الثاني، الجزء الثالث، الجزء الرابع، الجزء الخامس

الجزء السادس، الجزء السابع، الجزء الثامن، الجزء التاسع، الجزء العاشر

الجزء الحادي عشر، الجزء الثاني عشر، الجزء الثالث عشر، الجزء الرابع عشر 

الجزء الخامس عشر، الجزء السادس عشر، الجزء السابع عشر، الجزء الثامن عشر

الجزء التاسع عشر، الجزء العشرون، الجزء الواحد والعشرون

الجزء الثاني والعشرون، الجزء الثالث والعشرون، الجزء الرابع والعشرون

الجزء الخامس والعشرون، الجزء السادس والعشرون، الجزء السابع والعشرون

الجزء الثامن والعشرون، الجزء التاسع والعشرون، الجزء الثلاثون

الجزء الواحد والثلاثون

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ.د شرف الدين عبد الحميد

أستاذ الفلسفة اليونانية بكلية الآداب جامعة سوهاج