العقل ومدارس الفلسفة الإسلامية .. الجزء الواحد والثلاثون
المدرسة المشَّائية: (29) ابن طُفَيْل وكتابه "حَيُّ بن يَقْظَان"
تطور الوعي الإنساني من الحس إلى العقل إلى الحَدْس: رحلة العقل نحو الله (4): مراحل تطور الوعي الإنساني (المرحلة الثالثة)
المرحلة الثالثة: الوعي العقلي: على تُخُوم العالم العقلي
المرحلة الثالثة من مراحل الوعي الإنساني، التي مر بها حَيُّ بن يَقْظَان، هي مرحلة الشباب، من السابعة إلى الواحد والعشرين، وفيها:
اكتشاف اللباس والحياكة:
وخلال ذلك تفنن حَيُّ بن يَقْظَان في وجود الحيلة، فاكتسى بجلود الحيوانات التي كان يشرّحها، واحتذى بها، واتخذ الخيوطَ من الأشعار، ومن القصب، وكل نبات ذي خيط.
اكتشاف البناء والحيوانات الأليفة والركاب:
واهتدى إلى البناء، فمرة فضل شيءٌ من غذائه، فأراد أن يحتفظَ به، فاتخذ مخزنًا وحصنه بباب من القصب المربوط بعضه إلى بعض، لئلا يصل إليه شيءٌ من الحيوانات، وتوسع في ذلك فاستألف جوارح الطير ليستعين بها في الصيد، واتخذ الدواجنَ لينتفع ببيضها وفراخها، إلى آخر ذلك.
ورأى أن يده وأصابعه تعينه على الحركات المختلفة، غير أنه رأى أن بعض الحيوانات تفوقه في سرعة العدو فتألف بعض الحيوانات من الخيل البرية والحُمُر الوحشية، وجعلها تخدمه في العدو والصيد، واسترضاها بما يقدمه لها من غذاء حتى يتأتى له الركوبُ عليها.
بداية الفكر والتأمل في عالم الكون والفساد:
ثم أنه بعد ذلك أخذ في مأخذ آخر من النظر، فتصفح جميع الأجسام في عالم الكون (الوجود) والفساد (الفناء) من الحيوانات، على اختلاف أنواعها والنبات والمعادن وأصناف الحجارة والتراب والماء والبخار إلخ، فاكتشف خواصها وأحوالها.
اكتشاف الوحدة والكثرة:
وأمعن حَيُّ بن يَقْظَان النظر في ذلك وتثبت، فرأى أنها تتفق ببعض الصفات، وتختلف ببعض، وأنها من الجهة التي تتفق بها واحدة، ومن الجهة التي اختلفت فيها متغايرة ومتكثرة، فكان تارة ينظر خصائص الأشياء، وما تفرد به بعضُها عن بعض، فتكثر عنده كثرة تخرج عن الحصر، وينتشر له الوجودُ انتشارًا لا يضبط.
اكتشاف القسمة والتركيب:
وكانت تتكثر عنده أيضًا ذاته! كان ينظر إلى اختلاف أعضائه، وأن كل واحد منها منفردٌ بفعلٍ وصفةٍ تخصُّه، وكان ينظر إلى كل عضو منها، فيرى أنه يحتمل القسمةَ إلى أجزاء كثيرة جدًا، فيحكم على ذاته بالكثرة، وكذلك على ذات كل شيء.
ثم كان يرجع إلى نظر آخر من طريق ثانٍ، فيرى أن أعضاءَه وإن كانت كثيرة، فهي متصلةٌ كلُها بعضها ببعض، ولا انفصال بينها بوجه، فهي في حكم الواحد! وأنها لا تختلف إلا بحسب اختلاف أفعالها، وأن ذلك الاختلاف إنما بسبب ما يصل إليه من قوة الرُوح الحيواني، الذي انتهى إليه نظرُه أولًا، وأن ذلك الرُوح واحدٌ في ذاته، وهو أيضًا حقيقةُ الذات، وسائرُ الأعضاء كلها كالآلات، فكانت تتحد عنده ذاتُه بهذه الطريقة، ثم كان ينتقل إلى جميع أنواع الحيوان، فيرى كلَ شخصٍ منها واحدًا، بهذا النوع من النظر.
وكان يحكم بأن الروح الذي لجميع ذلك النوع شيءٌ واحدٌ، وأنه لمْ يختلفْ، إلا أنه انقسم على قلوب كثيرة، وأنه لو أمكن أن يجمع جميعَ الذي افترق في تلك القلوب منه، ويُجعل في وعاء واحد، لكان كلُه شيئًا واحدًا، بمنزلة ماء واحد، أو شراب واحد، يُفرَّق على أوانٍ كثيرة، ثم يُجمع بعد ذلك في حالتي تفريقه وجمعه شيءٌ واحد، وإنما عرض له التكثرُ بوجه ما فكان يرى النوعَ كلَه بهذا النظر، واحدًا، ويجعل كثرة أشخاصه، بمنزلة كثرة أعضاء الشخص الواحد، التي لم تكن كثيرة في الحقيقة.
الوجودُ كله واحدٌ:
فظهر له بهذا التأمل، أن جميع الحيوانات والنباتات وكذلك الجمادات شيءٌ واحدٌ في الحقيقة، وكان في هذه الحال لا يرى حيُّ بن يقظان شيئًا غير الأجسام، فكان بهذا الطريق يرى الوجودَ كله شيئًا واحدًا، وبالنظر الأول يرى الوجود كثرة لا تنحصر ولا تتناهى، وبقي بحكم هذه الحالة مُدةً.
اكتشاف المادة والصورة:
ثم اتجه إلى مأخذ آخر، إذ إن نظره في سائر الأحياء من الجمادات والأحياء، دعاهُ إلى إدراك أن حقيقةَ وجود كل واحد منها مركبةٌ من الجسمية ومعنى آخر زائد على الجسمية، إما واحدٌ وإما أكثر من واحد.
الصورةُ أولُ ما لَاحَ من العالم الرُوحاني/العقلي المجرد غير المرئي: “فلاحتْ له صورُ الأجسامِ على اختلافها، وهو أولُ ما لاحَ له من العالم الرُوحاني، إذ هي صورٌ لا تُدرك بالحس، وإنما تدرك بضرب من النظر العقلي.
اكتشاف النفس النباتية والحيوانية:
ولاحَ له أن الرُوح الحيواني الذي مسكنه القلب، لا بد له من معنى زائدٍ على الجسمية، وذلك المعنى صورتُه، وفصلُه الذي انفصل به عن سائر الأجسام، وهو الذي يعبر عنه النُّظَّار (الفلاسفة) بالنفس الحيوانية، ثم أدرك في النبات النفس النباتية، وفي الجماد ما يعبر عنه النظار بالطبيعة.
فلما وقف بهذا النظر، على أن حقيقةَ الرُوح الحيواني، الذي كان تشوفه إليه أبدًا، مركبةٌ من معنى الجسمية ومن معنى آخر زائد على الجسمية، وأن معنى هذه الجسمية مشتركٌ لسائر الأجسام، والمعنى الآخر المقترن به ينفرد به هو وحده، هانَ عنده معنى الجسمية، فطرحه وتعلق فكرُه بالمعنى الثاني، وهو الذي يعبر عنه بالنفس، فتشوق إلى التحقق به، فالتزم الفكرة فيه وجعل مبدأَ النظر في ذلك تصفح الأجسام كلها، لا من جهة ما هي أجسام بل من جهة ما هي ذوات صورٍ تلزم عنها خواصٌ، ينفصل بها بعضُها عن بعض.
فلاحَ له أن الجسمَ بما هو جسم، مركبٌ على الحقيقة من معنيين: أحدهما معنى الجسمية والآخر معنى الامتداد، ومعنى الجسمية هو الذي يسميه النظار (الفلاسفة) المادة والهيولى، وهي عاريةٌ على الصورة جملة، فلما انتهى نظرُ حَيّ بن يَقْظَان إلى هذا الحد، وفارق المحسوسَ بعض مفارقه، أشرف على تخوم العالم العقلي.
في هذه المرحلة الثالثة، من مراحل تطور الوعي الإنساني، أدرك حَيُّ بن يَقْظَان الصورة بالعقل والمادةَ بالحس، ثم شرعَ في البحثِ عن حقيقة النفس، فانتقل من المحسوس إلى المعقول، وتحول الفكرُ الطبيعيُ عنده إلى فكر ذاتي عقلي، ووصل إلى تخوم العالم العقلي، وبدأت عنده المرحلةُ الرابعةُ: المرحلة العقلية الفلسفية.
في الدردشة القادمة –بإذن الله– نواصل رحلتَنا التأويليةَ مع بقية مراحل تطور الوعي الإنساني عند ابن طفيل: ابن طُفَيْل وكتابه “حي بن يقظان”: تطور الوعي الإنساني من الحس إلى العقل إلى الحَدْس: رحلة العقل نحو الله (5): مراحل تطور الوعي الإنساني (المرحلة الرابعة والخامسة).
اقرأ أيضاً:
الجزء الأول، الجزء الثاني، الجزء الثالث، الجزء الرابع، الجزء الخامس
الجزء السادس، الجزء السابع، الجزء الثامن، الجزء التاسع، الجزء العاشر
الجزء الحادي عشر، الجزء الثاني عشر، الجزء الثالث عشر، الجزء الرابع عشر
الجزء الخامس عشر، الجزء السادس عشر، الجزء السابع عشر، الجزء الثامن عشر
الجزء التاسع عشر، الجزء العشرون، الجزء الواحد والعشرون
الجزء الثاني والعشرون، الجزء الثالث والعشرون، الجزء الرابع والعشرون
الجزء الخامس والعشرون، الجزء السادس والعشرون، الجزء السابع والعشرون
الجزء الثامن والعشرون، الجزء التاسع والعشرون، الجزء الثلاثون
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا