العقل ومدارس الفلسفة الإسلامية .. الجزء التاسع والعشرون
المدرسة المشَّائية: (27) ابن طُفَيْل وكتابه "حَيُّ بن يَقْظَان"
تطور الوعي الإنساني من الحس إلى العقل إلى الحَدْس: رحلة العقل نحو الله (2): نشأة الإنسان/حَيّ بن يَقْظَان
بعد أن عرضنا –صديقي القارئ صديقتي القارئة– في الدردشة السابقة، (ج 28)، مقدمةً عن ابن طُفَيْل وكتابه “حَيُّ بن يَقْظَان”، نفحصُ، في هذه الدردشة، قضيةَ كيف ولد ونشأ حي بن يقظان/الإنسان.
أولًا: نظريتانِ لتفسير نشأة الإنسان/حيّ بن يَقْظَان:
كيف ولد حَيُّ بن يَقْظَان في جزيرة من جزائر الهند تحت خط الاستواء؟
إنَّ أولَ مشكلةٍ فلسفيةٍ تواجهنا، في قصة حي بن يقظان، مشكلةُ خلق الإنسان، أي كيف ظهرَ أولُ إنسانٍ على وجه الأرض؟
قدَّمَ ابنُ طفيل، للإجابة عن هذا السؤال، نظريتين: نظرية تقول بأن حَيَّ بن يَقْظَان تولدَ من الطين تولدًا ذاتيًا، ونظرية تقرر أنه وُلدَ من أبوين، مثل غيره من البشر. هذان الرأيان يمثلان رأي الفلاسفة القدماء، ويعتبران بمنزلة احتمالين قائمين لنشأة حي بن يقظان. لم يفضل ابن طفيل أحدَ الرأيين على الآخر فترك المجالَ مفتوحًا دون أن يقطع برأي.
النظرية الأولى: نظرية التولد الذاتي
يقول ابنُ طفيل: “ذكرَ سلفُنا الصالحُ، رضي الله عنهم، أنَّ جزيرةً من جزائر الهند التي تحت خط الاستواء، وهي الجزيرة التي يتولد فيها الإنسانُ من غير أم ولا أب، وبها شجرٌ يثمر نساءَ، وهي كما ذكر المسعودي أنها جزيرة الواقواق! بأن حي بن يقظان من جملة مَنْ تكوَّنَ في تلك البقعة، من غير أم ولا أب.
إن بطنًا من أرض تلك الجزيرة تخمرت فيه طينةٌ على مر السنين والأعوام، حتى امتزج فيها الحارُ بالبارد، والرطبُ باليابس، امتزاجَ تكافؤٍ وتعادلٍ في القوى.
كانتْ هذه الطينةُ المتخمرةُ كبيرةً جدًا، وكان بعضُها يفضل بعضًا في اعتدال المزاج والتهيؤ لتكون الأمشاج، وكان الوسطُ منها أعدلَ ما فيها، وأتمه مشابهةً بمزاج الإنسان، فتمخضتْ تلك الطينةُ، وحدث فيها شبهُ نُفَّاخات الغليانِ لشدة لزوجتها، وحدث في الوسط منها لُزوجةٌ ونفاخةٌ صغيرةٌ جدًا، منقسمة بقسمين بينهما حجابٌ رقيق، ممتلئةٌ بجسم لطيف هوائي في غاية الاعتدال اللائق به، فتعلق به عند ذلك، الرُوحُ الذي هو من أمر الله تعالى، وتشبث به تشبثًا يعسرُ انفصالُه عنه عند الحس، وعند العقل.
إذ قد تبين أن هذا الرُوح، دائم الفيضان من عند الله عز وجل، وأنه بمنزلة نور الشمس الذي هو دائم الفيضان على العالم، فلما تعلق هذا الرُوح بتلك القرارة (القرارة: كأنها الخلية بتعبيرات العلماء المعاصرين!)، خضعتْ له جميعُ القوى، وسجدتْ له، وسُخرتْ بأمر الله تعالى في كمالها، فتكون بإزاء تلك القرارة نُفَّاخةٌ أخرى منقسمةٌ ثلاث قرارات، بينها حُجُبٌ لطيفةٌ ومسالكُ نافذة، وامتلأت بمثل ذلك الهوائي الذي امتلأتْ منه القرارةُ الأولى، إلا أنه ألطَف منه.
وسكن في هذه البطون الثلاثة المنقسمة من واحد طائفةٌ من تلك القوى التي خضعت له، وتوكلتْ بحراستها والقيام عليها، وإنهاء ما يطرأ فيها من دقيق الأشياء وجليلها، إلى الرُوح الأول المتعلق بالقرارة الأولى. وتكون أيضًا، بإزاء هذه القرارة من الجهة المقابلة للقرارة الثانية، نفاخةٌ ثالثةٌ مملؤة جسمًا هوائيًا إلا أنه أغلظ من الأولين. وسكن في هذه القرارة، فريقٌ من تلك القوى الخاضعة، وتوكلتْ بحفظها والقيام عليها، فكانت هذه القرارة الأولى والثانية والثالثة أول ما تخلق من تلك الطينة المتخمرة الكبرى”.
وهكذا يستمر ابنُ طفيل في وصف تكون أعضاء بدن الإنسان، من قلب ودماغ وكبد، حتى تم خلقه طفلًا كاملًا: ” ثم ما زالوا يصفون الخِلْقَةَ كلها، والأعضاءَ بجملتها، على حسب ما وصفه الطبيعيون في خِلْقة الجنين في الرحم، لم يغادروا من ذلك شيئًا، إلى أن كمل خَلْقه، وتمت أعضاؤه، وحصل في حَد خروج الجنين من البطن”. ثم “استغاث ذلك الطفلُ، حَيُّ بن يَقْظَان، عند فناء مادة غذائه، واشتداد جوعه، فلبته ظَبْيَةٌ (غزالةٌ) فقدت طَلاها (ولدها)”، وقامتْ بتربيته.
تطورٌ مُوَجَهٌ بأمر الله
نلاحظ هنا أن ابن طفيل (ولنذكر أن ابن طفيل كان طبيبًا كبيرًا) يعرض لنظرية مادية في نشأة الإنسان، تشبه نظرية التطور، في وجه من وجوهها، (تطور الإنسان من قرارة أولى/خلية أولى)، أن الإنسان تطور من تخمر الطين.
لكن الذي تطور من خميرة الطين هو بدنُ الإنسان، (وهذا أراه أمرًا جوهريًا في تأويل فلسفة ابن طفيل تأويلًا أقرب إلى الصواب) لا رُوحه، لأن الرُوحَ، عند ابن طفيل، لمْ ينشأْ من المادة، ولا هو من مكونات المادة، بل كما يذكر ابن طفيل: “من أمر الله تعالى وتشبث به تشبثًا يعسر انفصالُه عنه عند الحس، وعند العقل. إذ قد تبين أن هذا الرُوح، دائم الفيضان من عند الله عز وجل، وأنه بمنزلة نور الشمس الذي هو دائم الفيضان على العالم”. (والفيضان والنور من مصطلحات المتصوفة الإشراقيين).
إذًا الروح أمره الله تعالى فتعلق بالطينة فصارتْ إنسانًا مكونًا من عنصرين: الأول: عنصر مادي، هو البدن. والثاني: عنصر غير مادي وهو الرُوح.
هذا التوجه يشبه توجهَ أصحابِ نظرية “التطور الموَّجَه”، أي التطور الذي يكون فيه الانتخابُ الطبيعيُ موجهًا بأمر الله تعالى. وهذه النظرية يعتنقها في عصرنا كثيرٌ من العلماء المسلمين والمسيحيين واليهود، الذين يؤمنون بنظرية التطور الداروينية، وفي الوقت ذاته يؤمنون بالله تعالى، وأنه خالقٌ لهذا التطور، وأن الانتخابَ الطبيعيَ مُؤْتَمِرٌ بأمره تعالى.
والخلاصة: إن ابن طفيل يعرض لنظرية مادية في نشأة الإنسان، لكن من وجهة نظر ميتافيزيقةٍ مؤلِهةٍ.
النظرية الثانية: نظرية الخلق
يعرض ابن طفيل للنظرية الثانية في نشأة حي بن يقظان بقوله: “ومنهم من أنكر تولد حي بن يقظان من غير أب ولا أم، وروى من أمره خبرًا نقصه عليك، فقال: إنه كان بإزاء تلك الجزيرة، جزيرةٌ عظيمةٌ متسعةُ الأكناف، كثيرةُ الفوائد، عامرةٌ بالناس، يملكها رجلٌ منهم شديدُ الأَنَفَة والغيرة، وكانت له أختٌ ذاتُ جمال وحسن باهر، فعضلها (بالغ في طلب مهرها) ومنعها من الأزواج، إذ لم يجد لها كفؤًا.
وكان له قريبٌ يسمى يَقْظَان فتزوجها سرًا، على وجه جائز في مذهبهم المشهور في زمنهم، ثم إنها حملتْ منه، فوضعتْ طفلًا، فلما خافتْ أن يفتضحَ أمرُها وينكشف سرُها، وضعته في تابوت وأحكمتْ زمَّه (غلقه)، بعد أن أروته من الرضاع، وخرجتْ به في أول الليل في جملة من خدمها وثقاتها، إلى ساحل البحر، وقلبها يحترقُ صَبَابةً به وخوفًا عليه، ثم إنها ودعته، ثم قذفتْ به في اليَّم، فصادف ذلك جري الماء بقوة المد، فاحتمله من ليلته، إلى ساحل الجزيرة الأخرى المتقدم ذكرها (في النظرية الأولى).
فلما اشتد الجوعُ بذلك الطفل، بكى واستغاثَ وعالجَ الحركة، فوقع صوتُه في أذن ظَبْية فقدت طَلَاها (ولدها)، خرج من كِناسه (جحره) فحمله العُقابُ. فلما سمعتِ الصوتَ، ظنته ولدَها، فتتبعتِ الصوتَ وهي تتخيلُ طلاها، حتى وصلتْ إلى التابوت، فحنتِ الظَبْيةُ، وحَنَتْ عليه، ورئمَتْ به، وأروته لبنًا سائغًا، وما زالت تتعهده وتربيه، وتدفع عنه الأذى. هذا ما كان عند من ينكر التولد. ونحن نصف هنا كيف تربى، وكيف انتقل في أحواله حتى بلغ المبلغ العظيم”.
خلاصة تأويلية: الاتفاق بين النظريتين
هنا يعودُ الاتفاقُ بين أصحابِ النظريتين: نظرية التولد الذاتي ونظرية الخلق، إذ تنتهي حكايةُ كلٍ منهما إلى أن الظَبْيةَ قامتْ بتربية الطفل حي بن يقظان.
ربما كانتْ وحدةُ النتيجةِ سببًا في جواز النظريتين، إذ تتفق النظريتان في تكوين الجنين، لأن التولد الذاتي خلقٌ ذاتي، وكلاهما خاضعان للتدخل الإلهي، الأولى تشبه خلق آدم، والثانية تشبه خلق البشر من آدم، فلا حاجة ملحة، عند ابن طفيل، للتفضيل بين النظريتين، فالمادة والرُوح، أو البدن والنفس قد وجدا –بأمر الله– معًا.
وإذا كان الله قد أوجد الإنسان، بدنًا وروحًا، فعلى الإنسان أن تكونَ قضيةُ حياتِه التي يجب أنْ يعيشَ من أجلها هي: كيف يصل إلى معرفة الله تعالى؟ ومعرفة الله تتطلب من الإنسان كمالًا معرفيًا، ولا يتأتى كمالُ الإنسانِ المعرفي إلا عبر تطورِ وعيِه، واكتمالِ هذا التطور.
في الدردشة القادمة –بإذن الله– نبدأُ رحلتَنا التأويليةَ مع مراحل تطور الوعي الإنساني عند ابن طفيل: ابن طُفَيْل وكتابه “حي بن يقظان”: تطور الوعي الإنساني من الحس إلى العقل إلى الحَدْس: رحلة العقل نحو الله (3): مراحل تطور الوعي الإنساني (المرحلة الأولى والثانية).
اقرأ أيضاً:
الجزء الأول، الجزء الثاني، الجزء الثالث، الجزء الرابع، الجزء الخامس
الجزء السادس، الجزء السابع، الجزء الثامن، الجزء التاسع، الجزء العاشر
الجزء الحادي عشر، الجزء الثاني عشر، الجزء الثالث عشر، الجزء الرابع عشر
الجزء الخامس عشر، الجزء السادس عشر، الجزء السابع عشر، الجزء الثامن عشر
الجزء التاسع عشر، الجزء العشرون، الجزء الواحد والعشرون
الجزء الثاني والعشرون، الجزء الثالث والعشرون، الجزء الرابع والعشرون
الجزء الخامس والعشرون، الجزء السادس والعشرون، الجزء السابع والعشرون
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا