العقل ومدارس الفلسفة الإسلامية .. الجزء الثالث والعشرون
المدرسة المشَّائية: (21) ابن باجّة وكتابه - تدبير المتوحد
فلسفة التوحد والاتصال: حياةٌ يدبرها العقلُ (1): لغز المغارة وأسطورة الكهف
لنبدأ في هذه الدردشة –صديقي القارئ صديقتي القارئة– بأول فلاسفة المدرسة المشَّائية في المغرب العربي: ابن باجة، لننظر –في نهايةِ رحلتِنا الفكريةِ التأويليةِ معه– ماذا يمكن أن نأخذ منه، وما يصلح أنْ نؤسسَ عليه من أفكارهِ وفلسفته في التوحد والاتصال.
ابن باجة وكتابه: “تدبير المتوحد”
ابن باجة (أبو بكر محمد بن يحيى بن الصائغ، 874 هـ/1080م – 533هـ/1138م)، فيلسوف سَرَقُسْطَة المعروف في الغرب اللاتيني بأفينّبس (Avennepes)، وأهم كتبه: “تدبير المتوحد”، منشور ضمن رسائل ابن باجة الإلهية، الطبعة الثانية، حققها وقدَّم لها، ماجد فخري، دار النهار للنشر، بيروت، 1991م.
يمكننا القولُ أنَّ أولَ عملٍ فلسفي في الأندلس والمغرب العربي كتابُ “تدبير المتوحد” لابن باجة، وأنَّ أولَ فيلسوفٍ أندلسي ابنُ باجة المولود في سَرَقُسْطَة والمتوفى في فاس بالمغرب. الهدف من هذا الكتاب: بيان كيف يتدبر الإنسانُ المتوحدُ حتى يتصلَ بالعقل الفعَّال والصور الروحانية ليحققَ السعادةَ والخلودَ لنفسه.
ابن باجة وأفلاطون: لغز المغارة الباجي – أسطورة الكهف الأفلاطونية
في الكتاب السابع من محاورة “بوليتيا”، أو “السياسة”، والمعروفة للجميع باسم “الجمهورية”، يعرض أفلاطون لمحةً من لمحات عبقريته، أعني “أمثولة الكهف”، أو ما اشتهر باسم “أسطورة الكهف”، وما أسماها ابن باجة بـ”لغز المغارة”، (والإلغاز يعني ضرب المَثَل).
يعرض ابن باجة، في رسالته “اتصال العقل بالإنسان”، لنظرية الصور (المُثُل) الأفلاطونية، فيقول: “فحال الجمهور من المعقولات تشبه أحوال المبصرين في مغارة لا تطلع عليهم الشمسُ فيرونها، بل يرون الألوانَ كلَها في الظل. فمن كان في فضاء المغارة رأى حاله شبيهة بالظلمة، ومن كان عند مدخل المغارة رأى الألوانَ في الظل. وجميعُ الجمهور: فإنما يرون الموجوداتِ في حال شبيهة بالظل، ولما يبصروا قط ذلك الضوء، فلذلك كما أنه لا وجود للضوء مجردًا عن الألوان عند أهل المغارة، كذلك لا وجود لذلك العقل عند الجمهور ولا يشعرون به. وأما النظريون: فينزلون منزلةَ من خرج من المغارة إلى البراح فلمحَ الضوءَ مجردًا عن الألوان، ورأى جميعَ الألوان على كُنْهِها. وأما السعداء: فليس لهم في الإبصار شبيه، إذ يصيرون هم الشيء، فلو استحال البصرُ فصار ضوءًا، لكان ذلك ينزل منزلة السعداء”. وعلى ذلك فأصناف الناس من حيث المعرفة بالصور الروحانية (الصور، التصورات، المعرفة العقلية) ثلاثة.
أصناف الناس من حيث المعرفة بالصور الروحانية
- الجمهور: الناظرون إلى الظلال أو الأشباح في الكهف المظلم، فلا يرون الشمس.
- النُظَّار: الذين خرجوا من الكهف فرأوا الشمس.
- السعداء: الذين تحقق فيهم اتحادُ البصر والشمس وصيرورتهما شيئًا واحدًا متحدًا.
وقف أفلاطون –كما رأى ابن باجة– دون الحالة الثالثة، حالة السعداء من الناس، التي يصبح فيها البصرُ والشمسُ شيئًا واحدًا، بينما تقدم ابن باجة إليها، فكانت إضافته الأولى، كما تجاوز ابن باجة صوفية المتصوفة، فكانت إضافته الثانية.
إضافة العبقرية الباجية
الصور الروحانية ليست مُثُل أفلاطون:
وضع أفلاطون الصور (المُثُل) خارجة عن الذهن الذي يدركها في عالم مفارق هو عالم المُثُل، بينما تصبح الصور (المعقولات أو المعاني المجردة عن المادة) عند بلوغ رتبة الاتصال هي والعقل الذي يدركها شيئًا واحدًا، وهذه إضافة العبقرية عند ابن باجة وهذا معنى التوحد الحق عنده.
الصور الرُوحانية ليست تلذذ الغزَّالي والصوفية:
كذلك ليست الغاية عند الاتصال بالصور الروحانية الوصول إلى التلذذ الذي ذكره الغزَّالي في نهاية كتابه “المنقذ من الضلال”، حتى قال: “وكان ما كان ممَّا لستُ أذكرُهُ”، وما يقوله الصوفيةُ في دعائهم: “جمعك الله” و”عين الجمع”، ولذلك زعم الصوفية أن إدراك السعادة القصوى قد يكون بلا تعلم، بل بالتفرغ وبأن لا يخلو طرفة عين من ذكر المُطْلَق، وذلك كله (في نظر ابن باجة) ظن وفعل ما ظنوا أمر خارج عن الطبع.
هذه الغاية التي ظنوها لو كانت صادقةً وغايةً للمتوحد، فإدراكها بالعرض لا بالذات، ولو أدركت لما كان منها مدينة ولبقي أشرف أجزاء الإنسان (أي العقل) فضلًا (زائدًا) لا عمل له، وكان وجوده باطلًا، لأنهم –أي الصوفية– لقصورهم عن الصور الروحانية المحضة (الخالصة) قامت عندهم هذه الصور الرُوحانية الخاصة، وهي المعاني الموجودة في قوى النفس الثلاث: في الحس المشترك، وفي قوة التخيل، وفي قوة التذكر. وإذا اجتمعت هذه القوى الثلاث حضرتِ الصورةُ الرُوحانية كأنها محسوسة، وتكون صادقةً، وقامتْ مقامَ الصور الروحانية المحضة: الوصول إلى العقل المستفاد (عقل الفيلسوف) واتحاده بالعقل الفعَّال، (العقل الأعلى مصدر المعرفة، كما سنشرحُ بعدُ)، فلا يبلغ العقلُ الإنساني الكمالَ بالأحلام الصوفية لكن بالمعرفة العقلية. إذًا تدبير المتوحد أعلى درجةً من التصوف، لأن غايةَ التصوف بالعرض لا بالذات، وغاية المتوحد بالذات لا بالعرض، وليست السعادة إلا النظر العقلي المحض.
تدبير المتوحد: فلسفة العقل المحض
يعرّف ابن باجة لفظةَ التدبير الواردة في عنوان كتابه “تدبير المتوحد” بقوله: “التدبير ترتيبُ أفعالٍ نحوَ غايةٍ مقصودة”. وأولُ خاطرةٍ نبديها هنا أن ابن باجة لم تشغلْه إشكاليةُ التوفيق بين الدين والفلسفة، كما شغلت الفارابي وابن سينا من قبله، بل سنجد ابن باجة فيلسوفًا متوحدًا متفردًا يعتمد العقل الخالص وحده، فهو يمكن أن نطلق عليه، دون خشية الوقوع في المبالغة: فيلسوف العقل المحض في الإسلام. تلك ميزةٌ فريدةٌ انفرد بها ذلك الفيلسوفُ المتفردُ المتوحد، ومن ثم يكون وصفُ الفلسفة الإسلامية، بضفافها المترامية الأطراف، بأنها فلسفة توفيقية اختزالًا مخلًا، وخللًا ينبغي التنبه إليه والتنبيه عليه.
بناءً على هذا التعريف: “التدبير ترتيب أفعال نحو غاية مقصودة”، يقسم ابن باجة كتابَه تقسيمًا منطقيًا منهجيًا مُحكمًا (وإن كان الكتاب للأسف غير مكتمل)، إلى أقسامٍ ثلاثة: القسم الأول: التدبير، أي: “ترتيب”. القسم الثاني: في الأفعال الإنسانية، “أفعال”. القسم الثالث: القول في الصور الروحانية، “نحو غاية مقصودة”.
سأتبع هذا التقسيم الثلاثي في فحصي التأويلي لفلسفة التوحد والاتصال الباجية، وعلى ذلك سينقسم فحصُنا لفلسفة ابن باجة إلى محاور ثلاثة: أولًا: التدبير والتوحد. ثانيًا: الأفعال الإنسانية. ثالثًا: الاتصال بالصور الروحانية. وعليه، يمكننا مقاربةَ الرؤيةِ الفلسفيةِ الباجية للتوحد والاتصال، وذلك على النحو الآتي:
أولًا: التدبير والتوحد
- معنى التدبير.
- أصناف التدبير:
- تدبير الإله للعالم.
- تدبير المدينة.
- تدبير المنزل.
- تدبير المتوحد.
- معنى المتوحد:
- المنفرد المنعزل.
- البالغ مرتبة الاتصال.
ثانيًا: الأفعال الإنسانية
- الفعل الجمادي.
- الفعل الحيواني.
- الفعل الإنساني.
ثالثًا: الاتصال: الصور الروحانية
أ. جوهر الإنسان.
ب. غاية الإنسان.
ج. وسيلة الإنسان.
د. أنواع الصور:
النوع الأول: الصور الحسية.
النوع الثاني: الصور الرُوحانية:
- صور الأجسام المستديرة.
- الصور الرُوحية الخاصة.
- صور المعقولات الهيولانية.
- الصور الرُوحية العامة.
هـ. غايات الإنسان وفقًا للصور الروحانية.
و. المتوحد في المدينة الكاملة:
- التوحد من العقول الفردية إلى العقل الكلي.
- التوحد من المدن الناقصة إلى المدينة الكاملة.
ثم نختتم رحلتنا التأويلية مع ابن باجة بخاتمة: خلاصة تأويلية عامة لفلسفة التوحد والاتصال الباجية. وسأحاولُ أنْ أجتهدَ –صديقي القارئ صديقتي القارئة– لتقرأَ معي لغةَ ابن باجة الصعبة مبسطةً واضحةً، كما أرجو.
في الدردشة القادمة –بإذن الله– نبدأ رحلتنا التأويلية مع: فلسفة التوحد والاتصال الباجية: حياةٌ يدبرُها العقلُ (2): التدبير والتوحد.
اقرأ أيضاً:
الجزء الأول ، الجزء الثاني، الجزء الثالث، الجزء الرابع، الجزء الخامس
الجزء السادس، الجزء السابع، الجزء الثامن، الجزء التاسع، الجزء العاشر
الجزء الحادي عشر، الجزء الثاني عشر، الجزء الثالث عشر
الجزء الرابع عشر ، الجزء الخامس عشر، الجزء السادس عشر
الجزء السابع عشر، الجزء الثامن عشر، الجزء التاسع عشر
الجزء العشرون، الجزء الواحد والعشرون، الجزء الثاني والعشرون
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا