النهضة المجتمعية
لقد استطاعت الدول المتقدمة تجاوز مراحل النكبة الحضارية بواسطة أطر واضحة لخارطة نهضة ونماء تبدأ وتنتهي بالأفراد.
لعل تجربة الشعوب المتمدنة المتقدمة، التي تُعلي مفهوم دولة القانون المتمخض عن فكرة العقد الاجتماعي المتمدن، خير مثال يعيننا لكي نستلهم معالم نهضة تلك الشعوب والمجتمعات.
فترة الميوعة والتحلل ومقومات ضخ الطاقة، الذي يمهد للحصول على نتائج ومركبات جديدة، فترة طبيعية تدعمها الطبيعة ويروج لها المنطق التحليلي الواعي.
لذا فلن تجد أمة متحضرة إلا ومرت بفترة إعداد مجتمعي، يتم فيه تفاعل نفسي لجميع أفراده للحصول على صيغة تعاطٍ، تُعرف بواسطتها معالم الطريق وتوزع الأدوار وتحدد الأولويات.
ما وراء القرارات السياسية
واهمٌ من يظن أن الضمير الإنساني الراقي هو الذي حرك قاطرة تلك الأمم، بل هو الوعي والعقل والمصلحة.
مثلًا نجد أن جورج واشنطن –أحد الآباء المؤسسين لمنظومة الخطوط العريضة للعرين الأمريكي– يصمم ألا يكسر مبدأ الدورتين الرئاسيتين فقط، ويرفض قبول فكرة الترشح لدورة رئاسية ثالثة رغم كونه أسطورة للأمريكان، فهو يدرك جيدًا ما هي معالم نهضة المجتمع وما هي عوامل ازدهاره، بعيدًا عن المصالح الشخصية أو الضلالات النفسية، التي تقتل على المدى البعيد والقريب كل أمل لنهضة الأمم، وتشنق بضيق أفقها شمس التمدن قبل ولادتها.
هنا لا بد أن نسأل عن دافع جورج واشنطن في تلك الممانعة، وهل هو يعود إلى الضمير؟ أم يعود إلى العقل والوقوف على ناصية طاقة البنود السياسية الواعية للعقد الاجتماعي، وإدراكه الدور التاريخي للملهمين والمصلحين؟
بسهولة الذي يرى جورج واشنطن الذي يستعبد الناس ويجعلهم رقيقًا وعبيدًا، بل إنه هو الذي يخلع أسنان عبيده جبرًا لكي يستخدمها عدة أسنان تعويضية لأسنانه المفقودة، سيدرك ما الدافع وراء قراراته السياسية.
سر قوة أمريكا
لقد أدرك واضعو دعائم معالم نهضة تلك المجتمعات أن العقل والمنفعة الجمعية هي المنوط بها دفع مرجل سفينة التقدم، التي تغزو بهيبتها بحار الظلمة والتردي والفرقة والتسلط والاستبداد الداخلي.
لقد ازدهر بسرعة نبت التجربة الأمريكية لعدة عوامل، نستلهمها من تتبع كل دقيقة من دقائق التاريخ الأمريكي الحديث، ولعلك تعي ذلك عندما ترى أن جامعة هارفارد قامت على أكتاف صفوة المهاجرين البريطانيين.
هنا تحضرني فكرة الهجرة إلى العالم الجديد حيث السعة والرحابة، وكيف تصبح بناية المغامرين بناية راسخة الجذور، لأن فجرها نبت من قلوب مغامرة غير مرتجفة قد تكون باغية لكنها حالمة.
لعلي يجب عليَّ الإشارة هنا أن وحدة التاريخ الاستعماري، المنبثق من فكرة الهجرة والانفصال عن جذور المنبع، قاسم مشترك بين أمريكا وإسرائيل، مما يجعل الأمريكان يفرشون دائمًا رداء الود والدلال لابنتهم المدللة.
يظن البعض أن الأنظمة السياسية الحاكمة وحدها المنوط بها الوصول بالمجتمعات إلى ركب النهضة، وينسون أن تلك الأنظمة ما هي إلا انعكاس للمجتمع الذي تتفشى فيه النفعية والأنانية والجهل وحب الامتلاك وتذبذب بوصلة الرشد.
معالم النهضة المجتمعية
المجتمعات المتقدمة ليست بالملائكية، بل إنهم قدّموا بعض الأشخاص والنخبة لوضع معالم طريق يشعر الجميع أن فيها صالحه، حتى وإن دكّت أقدام رشدها أنانيته ودوافعه الشخصية.
إن لم تذهب منا عوامل الزهو بمردود الطبقية الاجتماعية، ويشعر الجميع بقيمة جميع ممتهني المهن فلن ترى نهضة.
إن لم يصبح الحد الأدنى من المرتبات كافيًا لتلبية احتياجات الإنسان الضرورية، وتوفير المسكن والملبس والمأكل ووسيلة الانتقال بل والادخار، فلن ترى نهضة.
إن لم يصبح الشعب واعيًا قارئًا مطلعًا فلن ترى نهضة.
إن لم تكن هناك بيئة تنافسية عادلة للاستثمار وجو داعم للابتكار، فلن ترى نور الأمل ولا ضوء النجاح.
إن لم تتقابل أضلع مثلث السلطة والشعب والنخبة، صانعة مثلثًا يمهد لأن يكون وجهًا متلالئًا من وجوه هرم طاقة أبعاده تمثل سر الدفع والإنماء، فلن ترى لهيب ذلك البناء وأمله.
سلام على أهل الرشد
رواد النهضة الأوروبية ومسارهم الإصلاحي القائم على الاعتراض على عقبات التقدم، الذي كان الكهنوت الكنسي أحد أهم عقباته، ليس بالضرورة يصلح مع التجربة الإسلامية، اللهم إلا بنضج وعي قابل لتقبل الآخر وتجاوز عثرات آراء تراثية بعيدة عن صحيح الدين، وفتح آفاق أمل واستدعاء روح سلام ترفرف في كل جنبات صرح الأخلاق وتعاليم السماء.
سيحاسب الله أفراد المجتمعات الذين تجري في دمائهم معالم الحضارة والنبوغ لتخاذلهم لإدراك معالم النور والوقوف أعلى أعلام الصدارة.
إن فاقدي بذور النبوغ يجلبون تلك البذور من جميع أصقاع الأرض ليشيدوا صرح بقائهم وتفردهم.
وسلام على أهل الرشد وحملة لوائه والحمد لله رب العالمين.
مقالات ذات صلة:
سبب الخرافة والجهل في عصر النهضة
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا