قضايا وجودية - مقالاتمقالات

العقل ومدارس الفلسفة الإسلامية .. الجزء التاسع عشر

المدرسة المشَّائية: (17) ابن سينا: الشيخ الرئيس وكتابه الشفاء

فلسفة الوجود السينوية: (7) وجود النبوة: إثباتها ودورها الحضاري

تحدثنا –صديقي القارئ صديقتي القارئة– في الدردشة السابقة (ج 18) عن وجود النفس: لا ماديتها وخلودها. ولنواصل –في هذه الدردشة– مقاربتَنا التأويليةَ لفلسفة الوجود السينوية: وجود النبوة: إثباتها ودورها الحضاري.

ثالثًا: وجود النبوة

أ. إثبات النبوة

حاولَ ابن سينا أن يضعَ نظريةً في النبوة يوفق فيها بين تعاليم القرآن وفلسفته في الوجود. وقدّم بهذا الرد الفلسفي الإجابةَ المقنعةَ على تشكيك المشككين في ضرورة النبوة، والقائلين بعدم ضرورتها وإمكان العقلاء الاستغناء عنها.

لا نعلم –كما يقول الأستاذ العقاد في كتابه عن ابن سينا– أن أحدًا قال في ضرورة النبوات ما قاله ابن سينا، إذ جعلها “وظيفة حيوية في بنية المجتمع الإنساني”. إن ابن سينا يرى أنَّ النبوةَ ضروريةٌ للاجتماع الإنساني، ويحتاج إليها الإنسانُ في معاشه ومعاده معًا، فإن استغنى عن النبوة لكمال عقله، فهل يمكن الاستغناءُ عنها كونه مرشدًا وهاديًا إلى الدار الآخرة؟!

هاكم مجملَ رأي الشيخ الرئيس، من كتاب الشفاء:

ب. ضرورة الاجتماع المدني: الإنسان مدني بالطبع

موقف ابن سينا من النبوة

اضغط على الاعلان لو أعجبك

يبين ابن سينا ضرورَةَ الاجتماع المدني (كما قرر أفلاطون وأرسطو، والفارابي من قبله “راجع ج 10“)، بقوله: “إنه من المعلوم أن الإنسان يفارق سائر الحيوانات بأنه لا يحسن معيشته لو انفرد وحده، شخصًا واحدًا يتولى تدبير أمره من غير شريك يعاونه على ضروريات حاجاته، وأنه لا بد من أن يكونَ الإنسانُ مكفيًا بآخرَ من نوعه بكون ذلك الآخر أيضًا مكتفيًا به وبنظيره، فيكون مثلًا هذا يبقل لذلك (البقال)، وذاك يخبز لهذا (الخبَّاز)، وهذا يَخيط لآخر (الخياط)، والآخر يتخذ الإبرة لهذا، حتى إذا اجتمعوا كان أمرهم مكفيًا. ولهذا ما اضطروا إلى عقد المدن والاجتماعات، فمن كان منهم غير محتاطٍ في عقد مدينته على شرائط المدينة، وقد وقع منه ومن شركائه الاقتصار على اجتماع فقط، فإنه يتحيل على جنس بعيد الشبه من الناس وعادم لكمالات الناس”.

هذه نظرية التعاقد التي يلمح إليها ابن سينا، ومن لمْ يرضَ بهذا العقد المدني فهو “ليس من جنس الناس”، بل “وعادم لكمالات الناس”. والنبوة ضرورية لهذا العقد المدني، فإذا كان الاجتماعُ المدني ضرورةً، فالنبي أكبر ضرورات هذا الاجتماع، وهذه إضافة ابن سينا على أفلاطون وأرسطو.

ج. النبوة ضرورة مدنية: واجبٌ أن يوجدَ نبيٌ، وواجبٌ أن يكونَ إنسانًا

فإذا وجبت مشاركةُ الإنسان غيرَه في عقد المدينة والاجتماع “فلا بد في وجود الإنسان وبقائه من مشاركته، ولا تتم المشاركة إلا بمعاملة، ولا بد في المعاملة من سُنَّة وعدل، ولا بد للسنة والعدل من سانًّ ومُعدِّل، ولا بد من أن يكون هذا بحيث يجوز أن يخاطبَ الناسَ ويُلزِمَهم السنة. ولا بد أن يكون هذا إنسانًا، ولا يجوز أن يترك الناسَ وآراءَهم في ذلك فيختلفون، ويرى كل منهم ما له عدلًا، وما عليه ظلمًا.

فالحاجة إلى هذا الإنسان في أن يبقى نوعُ الإنسان ويتحصل وجودُه أشد من الحاجة إلى إنبات الشعر على الأشفار، وعلى الحاجبين، وتقعير الإخمص من القدمين، وأشياء أخرى من المنافع التي لا ضرورة فيها في البقاء، بل أكثر ما لها أن تنفع في البقاء.

ووجود الإنسان الصالح لأن يسن ويعدل ممكن كما سلف ذكره. فلا يجوز أن تكون العناية الأولى (العناية الإلهية) تقتضي تلك المنافع ولا تقتضي هذه التي هي أُسُها (النبوة)، ولا أنْ يكونَ المبدأُ الأولُ والملائكةُ بعده يعلم ذلك ولا يعلم هذا، ولا أن يكون ما يعلمه في نظام الخير الممكن وجوده الضروري حصوله لتمهيد نظام الخير لا يوجد، بل كيف يجوز أن لا يوجد وما هو متعلق بوجوده مبني على وجوده موجود؟ فواجبٌ إذن أن يوجد نبي، وواجبٌ أن يكون إنسانًا، وواجب أن تكون له خصوصية ليست لسائر الناس حتى يتعرف الناسُ فيه أمرًا لا يوجد لهم، فيتميز به منهم، فتكون له المعجزاتُ التي أخبرنا بها”. وعليه، فوجود النبي أكمل درجات الوجود الإنساني.

د. مكانةُ النبي في درجاتِ الوجود ووظيفته

موقف ابن سينا من النبوة تدرج الموجودات في الوجود:

“الوجودُ إذا ابتدأ من عند الأول (الله تعالى) لمْ يزلْ كلُ تالٍ منه أدون مرتبةً من الأول، ولا يزال ينحط درجاتٍ، فلأول درجة الملائكة الروحانية المجردة التي تسمى عقولًا، ثم مراتب الملائكة الروحانية التي تسمى نفوسًا، وهي الملائكة العَمَلَة، ثم مراتب الأجرام السماوية، وبعضها أرفع من بعض إلى أن يبلغ آخرها، ثم بعدها يبتدئ وجود المادة القابلة للصور الكائنة الفاسدة، ثم العناصر، ثم المركبات الجمادية (الجمادات)، ثم النباتات، وأفضلها الإنسان، وبعده الحيوانات ثم النباتات”.

النبي أفضل بني الإنسان:

إذا كان الإنسان أفضل الموجودات فإن أفضل الإنسان النبي، وفي ذلك يقول ابن سينا: “وأفضل الناس من استكملتْ نفسُه عقلًا بالفعل، ومحصلًا للأخلاق ليكون ذا فضائلَ عمليةٍ، وأفضل هؤلاء المستعدُ لمرتبةِ النبوة، وهو الذي له في قواه الإنسانية خصائص ثلاث (الصفاء وتألق الذهن، وكمال التخيل، وقوة إخضاع المادة الخارجية لخدمته وطاعته كما تطيع أجسامُ الناسِ أوامرَهم)، فإذا ما تحققتْ هذه الشروطُ الثلاثةُ جميعًا يكتسبُ النبي درجةَ الوعي النبوي أو “العقل القدسي”، الذي يتلقى العلومَ رأسًا وفجأةً ودون أي تعليمٍ بشريٍ سابق من العقل الفعَّال (راجع ج 9). وهكذا تتكشف للنبي جميعُ الأشياء في الحاضر والمستقبل”.

وظيفة النبي:

التشريع في أمور المصالح الإنسانية والعبادات: والنبيُ: “يسمعُ كلامَ الله تعالى، ويرى ملائكته وقد تحولت له على صورة يراها”. وقد بيَّنَ ابن سينا كيفيةَ هذا، وبيَّنَ أن هذا الذي يُوحى إليه “تتشبح (تتجسد) الملائكةُ له، ويحدث له في سمعه صوتٌ يسمعه يكون من قَبَلِ (من عند) الله والملائكة”. “ثم إن هذا الشخص الذي هو النبي ليس مما يتكرر وجود مثله في كل وقت، فإن المادة التي تقبل كمالَ مثلِه تقع في قليل من الأمزجة، فيجب لا محالة أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد دبر لبقاء ما يسّنه ويشرعه في أمور المصالح الإنسانية تدبيرًا عظيمًا، والعبادات الموحى بها من قبل الله تعالى”.

إذا كان وجودُ النبي ضروريًا لإصلاح الأمور الإنسانية، وواجبًا لدعوة الناس إلى الله، وإلى ما فيه خيرهم في الدنيا والآخرة، فكيف يدعو النبيُ الناسَ إلى الله تعالى؟

في الدردشة القادمة –بإذن الله– نواصل رحلتَنا التأويليةَ مع فلسفة الوجود السينوية: وجود النبوة: كيفية دعوة النبي إلى الله.

اقرأ أيضاً: 

الجزء الأول ، الجزء الثاني، الجزء الثالث، الجزء الرابع، الجزء الخامس

الجزء السادس، الجزء السابع، الجزء الثامن، الجزء التاسع، الجزء العاشر

الجزء الحادي عشر، الجزء الثاني عشر، الجزء الثالث عشر، الجزء الرابع عشر 

الجزء الخامس عشر، الجزء السادس عشر ، الجزء السابع عشر، الجزء الثامن عشر

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ.د شرف الدين عبد الحميد

أستاذ الفلسفة اليونانية بكلية الآداب جامعة سوهاج