العقل ومدارس الفلسفة الإسلامية – الجزء الرابع عشر
فلسفة الوجود السينوية: (2) فلسفة الوجود: الإلهيات
تحدثنا –صديقي القارئ صديقتي القارئة– في الدردشة السابقة (ج 13) عن مقدمة لفلسفة الوجود عند ابن سينا. ولنواصل –في هذه الدردشة– مقاربتَنا التأويليةَ لفلسفة الوجود السينوية: الإلهيات.
1. فلسفة الوجود
أ. الوجود والماهية
عندما تفكر في موجود ما –وليكن صديقك “زيد”– يمكنك في الحال أن تميز –في ذهنك– جانبين في زيد: الماهية، وهي ذات زيدٍ، والماهية: كل ما يمكن أن يقال في الجواب عن سؤال: ما هو؟ فإن سألتك ما هو زيد؟ أجبت: زيدٌ إنسانٌ، حيوانٌ مفكرٌ. فهذه “ماهية” زيد. والجانب الآخر: “وجود” زيد في العالم الخارجي. فالماهية في الذهن مستقلة عن الوجود، أما في العالم الخارجي، فإن الماهية والوجود هما عين الشيء. فيوجد في ذهنك تفرقةٌ بين ماهية زيد ووجوده، لكن في الواقع الخارجي ماهية زيد عين وجوده ولا تمييز بينهما. أما وجود الله تعالى فوجوده عين ماهيته. ومبحث ابن سينا الأنطولوجي/الوجودي سيكون في وجود الوجود وأقسام هذا الوجود.
ب. الواجب الوجود والممكن الوجود
يقسم ابن سينا –كما فعل الفارابي قبله (راجع: ج 7)– الوجودَ إلى قسمين رئيسين: واجب الوجود بذاته وممكن الوجود بذاته. وفي ذلك يقول: “فيكون منها (الموجودات) إذا ما اعتبر بذاته (لو تأملت حقيقته) لم يجبْ وجودُه (مثل وجود زيد لم يكن واجبًا أن يوجد)، وظاهر أنه لا يمتنع وجوده (فزيد كان يمكن أن يوجد وكان يمكن أن لا يوجد)، وإلا لم يدخل إلى الوجود، وهذا الشيء هو في حيز الإمكان (إذا وجد زيد فقد أمكن وجوده)، ويكون منها ما إذا اعتبر بذاته (لو تأملت حقيقته) وجبَ وجودُه (وجود الله واجب، أي لا يمكنك تصور عدم وجوده)”.
دليل الواجب والممكن: أقامَ ابن سينا –كما فعل الفارابي– الدليلَ على وجود الله من مجرد تأمل فكرة الوجود. وهذا الدليل من أقوى الأدلة على وجود الله، ويصعب جدًا نقده، لأنه مؤسس على قواعد عقلية ثلاث: 1. استحالة اجتماع النقيضين (راجع: العقل واليقين، ج3)، 2. العلّية (راجع: العقل والعلية، ج1)، 3. امتناع التسلسل إلى ما لا نهاية (راجع: العقل والعلية، ج5).
بناء على هذه الرؤية الأنطولوجية/الوجودية للعالم تتحدد خواصُ واجبِ الوجود.
ج. خواص الواجب الوجود
- واجبُ الوجودِ لا علة له
إن الواجب الوجود بذاته (الله تعالى) لا علةَ له، فلو كان له علةٌ لم يكنْ واجبَ الوجودِ بذاته، وإن الممكن الوجود بذاته (العالم) له علةٌ، فكل ما هو ممكن الوجود باعتبار ذاته، فوجوده وعدمه (مثلًا: وجود زيد وعدمه) كلاهما بعِلة، لأنه إذا وُجِدَ فقد حصلَ له الوجودُ متميزًا من العدم (أوجد الله زيدًا)، وإذا عُدِمَ حصلَ له العدمُ متميزًا من الوجود (أعدم الله زيدًا بعد أن كان موجودًا)، ومن البيّن (الواضح) أن كل ما لم يُوجَدْ ثم وُجِدَ فقد تخصص (وُجدَ وصارت له ماهية تميزه عن غيره من الموجودات) بأمر جائز غيره، فيكون وجوده لوجود شيء آخر غير ذاته لا بد منه فهو علتُهُ، فله علةٌ (له مسبب هو واجب الوجود). وبالجملة فإنما يصير أحد الأمرين (الوجود أو العدم) واجبًا له، لا لذاته، بل لعلة (الله تعالى).
- الواجب الوجود بذاته واجب الوجود من جميع جهاته.
- الواجب الوجود لا يمكن أن يكون وجوده مكافئًا لوجود آخر، فيكون كل واحد منهما مساويًا للآخر في وجوب الوجود ويتلازمان، أي يكون هذا موجودًا مع ذلك، وذلك موجودًا مع هذا وهذا محال (شريكُ الباري تعالى محالٌ).
إذن الله تعالى واجب الوجود هو العلة الأولى. وعلى ذلك يكون السؤالُ: من خلق الله؟ الذي سأله جون ستيوارت مل، وبرتراند رسل، وجان بول سارتر، وستيفن هوكينج، وغيرهم، سؤالًا غيرَ منطقي (راجع: العقل والسؤال)، يسأله منْ “يَغْفَلُ” عن أساسيات المنطق والفلسفة العقلية (راجع: مِنْ أينَ جاءتِ العلةُ الأولى: العقل والعلية ج 4).
د. خواص الممكن الوجود
أما الممكنُ الوجودِ، فقد تبينَ من ذلك خاصيته، أنه يحتاجُ ضرورةً إلى شيءٍ آخرَ يجعله بالفعل موجودًا (يخرجه من العدم إلى الوجود). وكل ما هو ممكن الوجود فهو دائمًا، باعتبار ذاته، ممكن الوجود، لكنه ربما عرض أن يجب وجوده بغيره (أي يكونُ واجب الوجودِ بغيره).
وعلى ذلك تكونُ قاعدةُ العليةِ الأولى: “الشيء ما لمْ يجبْ لمْ يوجدْ” صحيحةً (راجع القواعد الفلسفية للعلية: العقل والعلية ج 6).
خلاصةٌ تأويليةٌ: إن واجب الوجود هو وحده الوجودُ الحقُ، وكلُ الأشياء الممكنةِ من دونه باطلةٌ مستحقةٌ للعدم، وبه –واجب الوجود وحده– موجودةٌ حَقَةٌ. وفي ذلك يقول ابن سينا: “واجبُ الوجودِ حقٌ، لأنَّ حقيقةَ كلِ شيءٍ خصوصيةُ وجودهِ الذي يثبتُ له، فلا أحق إذن من واجب الوجود. وواجبُ الوجود حقٌ أيضًا، لما يكون الاعتقادُ بوجودهِ صادقًا، فلا أحق بهذه الحقيقة مما يكون الاعتقادُ بوجوده صادقًا، ومع صدقه دائمًا، ومع دوامه لذاته لا لغيره، وسائرُ الأشياء فإن ماهياتها –كما علمت– لا تستحق الوجودَ، بل هي في أنفسِها وقطعِ إضافتها إلى واجب الوجود، تستحقُ العدمَ، فذلك كلُها في أنفسِها باطلةٌ، وبه حقةٌ، وبالقياس إلى الوجه الذي به حاصله، فلذلك كل شيء هالك إلا وجهه، فهو أحق أن يكون حقًا”.
هذا هو واجب الوجود الحق عند ابن سينا، وتلكم هي خواصه. والسؤال الذي يعرض نفسه الآن: كيف أوجدَ واجبُ الوجودِ الممكناتِ والعالمَ؟
في الدردشة القادمة –بإذن الله– نواصل رحلتنا التأويلية مع فلسفة الوجود السينوية: وجود العالم.
مقالات ذات صلة:
الجزء الأول من المقال، الجزء الثاني من المقال، الجزء الثالث من المقال
الجزء الرابع من المقال، الجزء الخامس من المقال، الجزء السادس من المقال
الجزء السابع من المقال، الجزء الثامن من المقال، الجزء التاسع من المقال
الجزء العاشر من المقال، الجزء الحادي عشر، الجزء الثاني عشر من المقال
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا