هل أنت بحال جيد؟ .. الجزء السابع
تكلمنا على أن حسن الحال مرتبط بالعقلانية ارتباطًا وثيقًا، وعلى الرغم من وضوح تلك القضية إلى حد كبير، نجد كثيرًا من الناس يستمرون في اللجوء إلى الخيال والأوهام لتحسين حالهم.
التفكير العقلاني يحث الإنسان على التدقيق في حقائق الوجود من حوله، والتدقيق في طبيعة نفسه، حتى يتعامل مع الوجود أو نفسه بطريقة سليمة وواقعية، لكن أغلب الناس يتأثرون بالأوهام ويخلطون بينها وبين الحقيقة، وخير دليل على ذلك تأثر الناس بما يقدمه الإعلام من نمط للمعيشة والتعاملات بين الناس.
بين الواقع والخيال
الناس اليوم يأكلون كما يأكل الممثلون في الأفلام أو برامج الطبخ، ومن لم يقدر أن يقلدهم فهو غالبًا يتمنى أن يقلدهم ويسعى بجد إلى ذلك، الناس يحددون الأفضل من الملابس وفق ملابس الفنانين في المسلسلات والأفلام وليس وفق المناسب لهم، يتكلمون كما يتكلم الفنانون ويتعاملون كما يتعاملون في المسلسلات والأفلام، هذا الوهم المرسوم لنا على أنه الحقيقة ويجب علينا أن نقلده حتى نكون متحضرين، ما هو إلا خداع ومقدمة حقيقية لسوء الحال.
الواقع يختلف عن الوهم والخيال، وإن ما يروج له الإعلام من قبح أخلاقي ونمط استهلاكي وأفكار وسلوكيات شاذة يخدم بالدرجة الأولى الفكر المادي، الذي خدع البشر اليوم تحت عناوين براقة، مثل الحرية المطلقة وحقوق المرأة، ولا يخفى على أحد الفساد الفكري والأخلاقي الذي يعيش فيه أغلب الناس، بالإضافة إلى التفكك الأسري الذي أصبح ظاهرة واضحة جدًا في المجتمع، والذي بدوره سيؤدي إلى تفكك الأجيال القادمة بلا شك.
كل هذا الوهم مقدمة طبيعية جدًا لسوء الحال، فمن لم يعرف نفسه حق المعرفة، ويعرف كيف يحافظ عليها وعلى أسرته من هذا الوهم الضار، ويفهم جيدًا دور الأخلاق الحسنة في حفظ كيان الإنسان والأسرة، هو بلا شك يعيش في حال سيئ.
الفرق بين الإنسان الواقعي والإنسان الخيالي
من الشواهد الهامة على التأثير السلبي للأوهام على حياة الإنسان، ما نشاهده من ممارسات يقوم بها كثير من الناس للتغلب على تقدم العمر باللجوء إلى عمليات التجميل، ظنًا منهم أن ذلك هو الحل الأفضل للتغلب على تقدم العمر، وعلى الرغم من القيام بتلك العلميات للمحافظة على مظهر دائم ومستمر فإن الواقع يقول كلمته في النهاية، وتظهر بوضوح مظاهر الشيخوخة رغمًا عنهم، مما يصيب هؤلاء الناس بسوء الحال نظرًا لعدم واقعية تفكيرهم وسلوكهم، يكفي أن تسمع وتشاهد ما يفعله المغنون والممثلون اليوم في هذا الصدد.
الإنسان الواقعي هو الإنسان المستقر بسبب رؤيته السليمة عن العالم من حوله، يعرف متى يقبل ما لا يستطيع تغييره، يتعامل وفق الحقائق، يعرف حدوده وحجمه الحقيقي ومدى تأثيره، ويعرف متى يرفض ويحاول، إذ يدرك أنه يستطيع المواجهة وإمكانية التغيير ممكنة، مثل مواجهة الفشل في الدراسة، أو تحدي زيادة الوزن، أو التغلب على الملكات الأخلاقية السيئة مثل الكذب والنفاق، فكل هذا يستطيع الإنسان تغييره لأنه وفق استطاعته وقدراته.
إن دخول الإنسان منطقة الأمل الكاذبة وتمني ما لا يمكن تحقيقه –إما لعدم قدرته عليه أو لمخالفته للواقع– هو في الأساس نتاج استغراق الإنسان في هذا الوهم السابق ذكره، فكيف بمن أثقل نفسه بالأوهام الكاذبة أن يكون في حال جيد؟
مقدمات حسن الحال
العقلانية وإدراك حقيقة الواقع
قد يكون الواقع صعبًا ويحتاج مجهودًا ومشقة في التعامل معه، لكن بإدراكه إدراكًا حقيقيًا يسلم الإنسان من هذا الوهم الذي تحدثنا عنه، فلا يحزن لتقدمه في العمر ولا لتغير شكله لأن ذلك من طبيعة الحياة وقوانينها، يتعامل بمنطقية مع الفقد وعدم القدرة على الحصول على كل ما يتمنى.
مثلًا يتعامل مع حوادث الموت أنها حال الجميع ويجب العمل لمثل هذا اليوم، ويتعامل مع الوظيفة التي كان يريد الحصول عليها ولم يستطع أن ذلك من طبيعة الحياة، فلا يستطيع الإنسان الحصول على كل ما يرغب في الحصول عليه.
وعليه فإن العقلانية التي تعد من مقدمات حسن الحال تقودنا إلى النظر والفهم الحقيقي، وكذلك إلى التخطيط للحياة عمومًا، مما ينعكس بدوره على مزيد من حسن الحال واستمراره لفترات أطول وأكثر استدامه.
التخطيط السليم
التخطيط السليم النابع من يقين وإيمان بالعدل والخير والجمال والحق، حتمًا نتائجه جيدة على المستوى الشخصي والجماعي، عندما يكون راسخًا في أذهاننا أن العدل حتمًا سينتصر وأن تخطيطًا للحياة غير قائم على العدل سوف تكون نتيجته سوء الحال، فلا يمكن أن أعتقد أن تربية أولادي دون عدل ستكون لها نتائج صحيحة، أو التعامل مع زوجتي دون عدل أو رحمة ستكون لها نتائج إيجابية داخل الأسرة.
هذا عكس التخطيط المنحط الذي يسعى إلى السيطرة على الشعوب ونهبها، كما تفعل القوى الاستعمارية قديمًا وحديثًا، لكن المشترك أن للتخطيط نتائج حتمية، لكن قد نختلف في غايتها من حيث سلامتها أو قبحها.
لذلك فالحديث عن التخطيط هنا قائم على تفكير عقلاني يسعى إلى تحسين الحال النابع من الواقعية، والتخلق بالأخلاق والإيمان العقلي والقلبي معًا بالقيم الحسنة، ويسبقهما التخلص من مسببات سوء الحال التي تحدثنا عنها سابقًا.
الصبر على تحمل الصعوبات
تلك العقلانية وغيرها من مقدمات حسن الحال تحتاج إلى الصبر لتحصيل نتائجها، هذا الصبر عادة ما لا يتحمله أغلب الناس، عندما تحدثنا عن العقلانية والنظرة الواقعية كان من أهم مقومات تحلى الإنسان بها هو امتلاكه ملكة الصبر، فقد يكون الإنسان متأثرًا بالوهم وكثير من المغالطات نتيجة أسباب كثيرة، إلا أنه عندما يعلم خطورة تلك النظرة القائمة على الوهم، يحاول تصحيح نظرته مرة أخرى واكتساب نظرة واقعية عن الوجود، وهذا لن يحدث إلا لو صبر على التعليم والفهم والممارسة.
قد يكون في جانب آخر يعلم بالحقيقة وتتسم نظرته بالعقلانية حول كثير من الأمور، هذا أيضًا يحتاج إلى صبر، فالواقع دون شك يحمل صعوبات ومتطلبات تحتاج إلى صبر للوصول إلى نتائج مرضية، فعلمنا مثلًا أن تربية الأبناء شاقة يتطلب منا الصبر عليها وبذل الجهد المطلوب لإتمامها، فالصبر ضروري لأصحاب النظرة العقلانية، كما هو ضروري بالعموم كونه مقدمة من مقدمات حسن الحال.
من ليس بعاقل ولا يمتلك الصبر فهو غالبًا عجول قنوط لا يتحمل ولا يخطط، فهو ببساطة في حال سيئ، لو أخذنا على سبيل المثال طالبًا في المرحلة الثانوية يتمنى أن يكون طبيبًا، فمن العقلانية أن يدرك إن كان يهتم ويحب العلوم الأقرب إلى تخصص الطب، ويجب أن يكون على مستوى مناسب من اللغة الإنجليزية، فهي لغة تعلم علم الطب حاليًا، وأن يعلم بالمجهود الكبير الذي يجب بذله للوصول إلى تقدير جيد في الثانوية العامة لدخول كلية الطب، وصبر لقضاء سنوات كلية الطب وما بعدها حتى يصل إلى هدفه؛ طبيب ناجح.
وجود رؤية واقعية
إن البحث عن حسن الحال هو في الأساس نظرة عقلانية لما يجب أن نكون عليه، كما أن الإحساس المزيف عن حسن الحال سريعًا ما يكشف لنا الواقع أنه حال سيئ ومجرد وهم وخداع، فينبغي أن يخاف الإنسان من أن تنقطع علاقته بالواقع، لأن ذلك سيجعل الوهم والخيال الضار هو المسيطر عليه، بل يجب أن نعدّ من يقطع علاقتنا بالواقع والحقائق عدوًا لنا.
إن من لا يمتلك رؤية واقعية عن الوجود هو في الحقيقة على غير حال حسن، فهو لا يستطيع أن يدرك ما يجب أن يكون عليه سلوكه كي يصل إلى السعادة، هو دائمًا ينتظر من يحدد له ماذا يجب أن يفعل دون أن يجهد نفسه في التفكير حول ما يقدم إليه هل هو صحيح أو خطأ، ويكتفي بشعور الانضمام لما يمارسه المجموع، ظنًا منه أن في هذا نجاة، إلا أن الحقيقة غير ذلك.
كثير من الشباب اليوم يلبس ويأكل ويمارس علاقاته وفق ما يشاهده ويتأثر به في وسائل الإعلام، دون النظر إن كان صحيحًا أو لا، وعندما تسأله لماذا تمارس ذلك السلوك، تجد الجواب الجاهز المريح له، بأن الجميع يفعل ذلك وأنا من هذا الجميع!
يتبع.
مقالات ذات صلة:
الجزء الأول من المقال، الجزء الثاني من المقال
الجزء الثالث من المقال، الجزء الرابع من المقال
الجزء الخامس من المقال، الجزء السادس من المقال
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا