العقل والعِلّية .. الجزء السادس
القواعد الفلسفية للعلية -1- قاعدة الشيء ما لمْ يجبْ لمْ يوجدْ
سنتكلم في هذه الدردشة –صديقي القارئ صديقتي القارئة– عن بعض قواعد فلسفية مهمة مشتقة من العلية.
تتعلق القاعدة الأولى بالمعلول، في حين تتعلق القاعدة الثانية بالعلة، بينما تشمل الثالثة والرابعة العلة والمعلول معًا.
وهذه القواعد طبقها الفلاسفة المسلمون على مسألة صنع العالم وغاياته، وأثبتوا صحتها، وردوا على اعتراضات المعترضين عليها، سواء أكان المعترضون من علماء الكلام القدماء، أم من علماء ميكانيكا الكم والفلاسفة المعاصرين.
الفلسفة: أمُّ العلومِ قديما، وسيدتُها والحاكمةُ عليها حديثًا!
إن غايةَ وهدفَ جميع المحاولات العلمية هو كشفُ علاقاتِ العلية والمعلولية بين الظواهر. ومبدأ العلية (لكل معلول علة)، باعتباره مبدأ كليًا عامًا وشاملًا، هو المبدأ الذي يسندُ جميعَ العلوم،
من حيث أن كلية أي قانون علمي وقطعيته متوقفة على القوانين والقواعد العقلية والفلسفية للعلية، إذ بدون قواعد العلية هذه سيكون من المتعذر إثبات أي قانون علمي كلي في أي علم من العلوم.
ويُعدُ هذا من أهم المجالات التي يحتاج فيها العلمُ إلى الفلسفة؛ إذا كانت الفلسفة هي أمُّ العلومِ قديمًا فهي –كما أقترحُ– سيدتُها والحاكمةُ عليها حديثًا! وهاكم –باختصار وتبسيط– بعض القواعدَ الفلسفيةِ لمبدأ العلية:
القاعدة الأولى: قاعدة الشيء ما لمْ يجبْ لمْ يوجدْ
إن علاقة الكائنات بوجودها يتصورها الفلاسفة على إحدى صورتين:
- الصورة الأولى: علاقة الصدفة والاتفاق.
- الصورة الثانية: علاقة الوجوب والضرورة.
عندما يسقط المطر يمكنك أن تتساءل عن العلاقة بين حبات المطر ووجوده: أهي علاقة الضرورة والوجوب، أم هي علاقة الاتفاق والصدفة؟ إذا سلمنا أن للشيء علة توجده، فإن وجوده سيصبح ضروريًا بالنظر إلى أسباب وجوده التي تفرضه فرضًا.
أي إذا كان الكائنُ له عللٌ تُوجِده، فلن تكون المسألةُ مسألةَ صدفةٍ واتفاقٍ، بل ضرورةٍ ووجوب. وقد صك الفلاسفةُ المسلمون هذه الفكرة في القاعدة التي تقول: “إن الشيء ما لم يجب لم يوجد”.
وهذ يعني أن المعلول ما لم يجب لم يوجد، أي الأشياء تنالُ الوجوبَ أولًا، ثم الوجودَ ثانيًا. (أنا موجودٌ إذًا فأنا واجبُ الوجود).
سبق وجوب الشيء يعني أن علته فرضت وجوده
الشيء يصبح واجبًا أولًا قبل أن يوجد. ويعني الفلاسفة المسلمون بسبق وجوب الشيء أن علله فرضت وجوده (يسقط المطر إذا توافرت أسباب سقوطه حتمًا)، لا أن الشيء قبل وجوده يكون موجودًا بوجود ما، ويصبح واجبًا بوجودٍ ثانٍ.
لو قلنا بذلك لوقعنا في التناقض. إن ما يجري في الكون حتمي وضروري: كل ما يقع في الكون من الحوادث يكون قد بلغ الضرورة وأصبح واجبَ الوقوع. ولكن علينا أن نفرق بين نوعين من الواجب:
نوعا الواجب: واجب بذاته وواجب بغيره
وجوب الوجود تارة تفرضه الذاتُ، وأخرى تفرضه عواملُ خارجةٍ عن الذات. الحال مع الحوادث أن وجوبها بالغير –بحسب التعبير الفلسفي– أعنى بعوامل أو علل خارجة عنها.
إنها تستمد وجوبها من عللها، بينما الذي يستمد وجوبَه من ذاته فهو العلة المطلقة، أي واجب الوجود بالذات، وليس بالغير، وهو الله تعالى/ العلة الأولى.
الكون كله واجب بغيره
واضحٌ أن المقصودَ بالواجب هنا الواجب بغيره لا الواجب بذاته، فسقوط المطر واجب لا بذات المطر بل بتوفر علل سقوطه، فسقوط المطر واجب بغيره لا بذاته.
إن الكون كله واجب بغيره، وكل ما يقع في الكون من الحوادث قد بلغ الضرورة وأصبح واجبَ الوقوعِ، ولذلك فقد وقع. وكل الكائناتِ واجبةُ الوجودِ بالغير، لا بالذات. (أنا موجود إذًا فأنا واجب الوجود بغيري).
لا يلغي حرية الإنسان
إن القول بأن العلاقة بين الشيء وبين وجوده علاقة الضرورة، وليست الصدفة والاتفاق، لا يلغي ذلك –كما قد يتبادر إلى الذهن– حريةَ الإنسان. (وهي مسألة أخرى ربما نتحدث عنها في دردشات لاحقة).
في الدردشة القادمة –بإذن الله– نواصل الحديث عن بقية القواعد العقلية الفلسفية للعلية.
اقرأ أيضاً:
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
*************
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا