في الموعد الذي توقعه حضر السارق يمشي مترنحًا وعيناه زائغتان، يتلفت يمنة ويسرة، وحين اختار مقعده في مواجهة الفراغ، حملق فيه شديدًا، ثم جفل قليلًا، وأغمض عينيه.هكذا رآه الراوي ، وفهم لحظتها أن السارق يرى وجوه المسروقين تمرق أمامه في الهواء الذي يمرح بعيدًا عن البنايات الشاهقة البائسة،
وأن الاصفرار الذي سرى في سحنته، والارتجاف الذي سكن مقلتيه الزائغتين بين الفراغ والملاء، ما كان له أن يكون لولا أنه رأى ما لا يراه كل الذين يجلسون أمامه وخلفه، وعن يمينه ويساره، موزعين بين الطعام والشراب والانتظار والضحك والتمني.
حرك الراوي كرسيه حتى صار في مواجهته، ورآه وهو يفرد ذراعيه، ضاربا بكفيه شيئًا لا ينظر إليه غيره، بينما شفتاه تتحركان في سرعة خاطفة، وكأنهما تصبان اللعنة على كل ما حوله. رآه الرواي، نعم، لكنه لم يجرؤ أن يقترب منه أو يسأله عما يفكر فيه، أو يشعر به، فلو فعل هذا، فمن المؤكد أن السارق، الذي له في هذا المكان حيثية مستمدة من أيام الرمل والهتاف، سيبلغ عنه الحراس والعمال، فيحملونه على أكف من غضب، ويلقونه في الشارع.
كان على الراوي أن يستعدي كل ما سمعه وقرأه ورآه كي يحكم على الحالة الماثلة أمامه. تمهل وأطلق كل معرفته وخياله وأصدر حكمه، لكن هيهات أن يصدقه أحد، وإن صدقه البعض، فهيهات أن ينتصر أحد للمسروقين وهم من الذين لم يضربوا أقدامهم في الرمل، ويصرخوا بصوت ملأوه بحب فارغ للوطن.
لكن الراوي اكتفى بما رآه، وجعله يتيقن من أنه لا شيء يضيع سُدى، بينما وراؤه مطالب، أو صالح يدعو في انكسار وتبتل بإخلاص غارق في الدموع والرضا بالمقدر والمقسوم.
جاءه هذا اليقين حين رأى السارق يمد ذراعيه ويضرب بهما الهواء، وكأن هناك من يصارعه، بسكين أو عصا أو سيف أو حتى بندقية، ليس مهما هذا، إنما تلك الحالة التي هو عليها، وتدفعه إلى مجالدة من لا وجود لهم.
” هل هو الجنون؟” سأل الراوي نفسه، وهاتف المسروق الأول، فوجده يضحك شديدا، ويقول له:
ـ توقعت له هذا.
قال له وهو يتابع ضربات السارق في الهواء:
ـ ربما تكون لحظة وتذهب كغيرها.
لم يجد ردًا سريعًا حتى ظن أن المكالمة قد انقطعت، لكنه سمع أنفاسًا تتلاحق، وجاء الصوت:
ـ حتى لو ذهبت تلك اللحظة كغيرها، وعاد السواد إلى ضميره، فما هو فيه اعتراف بأنه ليس على حق.
ابتسم وقال له:
ـ هل هناك حق دون عودة ما سرقه؟
جاءته الإجابة على الفور، وكأن صاحبها قد فكر فيها وجهزها على مدار السنين السابقة:
ـ قد لا تعود السريقة، لكن يقر السارق بما فعل.
ابتسم الراوي، وقال:
ـ لكنه حتى الآن لم يعترف، ولا يريد أن يعيد ما سرقه.
قهقه المسروق وقال:
ـ يكفيه أن يصارع مطارديه إلى نهاية عمره، ويموت محسورًا.
قهقه الراوي بصوت أكثر ارتفاعا، وقال:
ـ هكذا يأتي دومًا انتظار العاجز، يستمتع اللص بما يسرق، ويبحث المسروق عما يخفف عنه الغضب والإهانة.
لكن المسروق الأول قال له في ثقة:
ـ حلمت بأن وجه السارق قد تمدد حتى صار يملأ ميدان التحرير، وأننا نحن المسروقين قد هجمنا فجلسنا عليه، بعضنا في عينيه، وبعضنا فوق جبهته، وآخرون قد توزعوا شاغلين خديه وشفتيه وذقنه وبين خصلات شعره وسدوا فتحات أنفه، وتزاحموا عند عنقه ثم تمددوا على كتفيه.
وبينما كان المسروق يجلس في بيته منتظرا أي اتصال من الراوي كي يطمئنه إلى أن السارق قد اعترف بسرقته وتوجه إلى أقرب فرع للبنك الذي كدس فيه ودائعه ليسحب ما يسدد به حقوق كل المسروقين، كان السارق يمد أنفه إلى الفراغ ساحبا كل ما وسعه من النسيم الطليق، حتى يتغلب على اكتئابه المقيم، وينسى كل الوجوه التي تطارده.
ورآه الراوي وهو ينفخ صدره في النسيم الطليق، وينادي طالبًا طعامًا دسمًا، يلتهمه على عجل، ثم يقوم سريعًا بعد أن يحتسى الشاي، مغافلًا النادي، كي لا يدفع حساب ما أكل وشرب، ويمضي بخطوات حذرة نحو الباب متلفتا حوله كأن على رأسه كل بنادق الشرطة،
ليجد الشارع أمامه يضيق تحت قدميه، فتضرب اليمنى اليسرى، وتهجم السيارات التي لا تعرف أنه كان هناك فوق الرمل يأمر فيطاع، وتلوح هناك فوق الشجر الذي يصطف على الجانبين وجوه كل الذين سرقهم، لكنه ينظر إليها هازئا، فقد عرف من مصادره السرية أن كل هذه الأشجار سيتم خلعها في غضون يومين اثنين، لتوسعة كل درب إلى حيث يريد ذلك الذي يقف أمامه صارخًا:
ـ تحت أمرك.
اقرأ أيضاً:
الوجه الأول، الوجه الثاني، الوجه الثالث، الوجه الرابع
الوجه الخامس، الوجه السادس، الوجه السابع، الوجه الثامن
الوجه التاسع ، الوجه العاشر، الوجه الحادي عشر، الوجه الثاني عشر
الوجه الثالث عشر، الوجه الرابع عشر، الوجه الخامس عشر، الوجه السادس عشر
الوجه السابع عشر، الوجه الثامن عشر، الوجه التاسع عشر، الوجه العشرون
الوجه الحادي والعشرون، الوجه الثاني والعشرون، الوجه الثالث والعشرون
الوجه الرابع والعشرون، الوجه الخامس والعشرون، الوجه السادس والعشرون
الوجه السابع والعشرون، الوجه الثامن والعشرون، الوجه التاسع والعشرون
الوجه الثلاثون، الوجه الحادي والثلاثون، الوجه الثاني والثلاثون، الوجه الثالث والثلاثون
الوجه الرابع والثلاثون، الوجه الخامس والثلاثون، الوجه السادس والثلاثون
الوجه السابع والثلاثون، الوجه الثامن والثلاثون، الوجه التاسع والثلاثون
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.