كوفي أون سا ران في المجتمع المسخ
المجتمع والتفاصيل!
أغنية الممثل المشهور، عودة الممثلة السابقة من الاعتزال بعد خلعها للحجاب، فتوى غريبة من الأزهر، غلاء الأسعار، تغافل متعمد من الإعلام العربي عن قصف غزة واليمن، أحداث متلاحقة سريعة، يتبع كل منها ردود أفعال صحيحة أو خاطئة، لكنها سرعان ما تذهب أدراج الرياح مع الحدث الجديد، وماذا تتوقع؟
يقول الشاعر العبقري (مصطفى إبراهيم) في رائعته:
وبما إن حيلتك بس عينين… ف قصادك حل من الاتنين…
يا تقرب جامد م الصورة… وتاخدلك كادر تركز فيه… وتعيش حكاويه…
وساعتها مفيش… ولا كادر يعيش… ويكونله لزوم غير كادر الزووم…
أصغر تفصيل فالصورة يبان… ريحة الدنيا وطعم الأحداث…
الفرق ف تدريج الألوان… شكل التجاعيد ف وشوش الناس…
ف تعيش مستمتع بالتفاصيل…
الجهل… جميل… بيقربلك سقف النشوة… والحزن كمان…
هكذا هو الغرق في التفاصيل كما يصفه الشاعر، تلهث محاولًا اللحاق بما يدور حولك، لا تكاد تستفيق من صدمة حتى تُصدم من جديد، لا تستطيع التوقف ولو للحظات قليلة لاستيعاب ما يدور حولك، فلا يوجد وقت لديك لهذا وإلا فاللهاث من جديد وراء ما فاتك، أو كما في وصفه البديع (وساعتها مفيش ولا كادر يعيش ويكونله لزوم غير كادر الزووم)، ما هو حدث اللحظة؟ إذن فليذهب إلى الجحيم كل ما فات، وكل ما هو آت، وكذلك تصبح انفعالاتك سريعة متلاحقة، تحزن بشدة للحدث الحالي فقد أصبح هو كل شيء، وتفرح حتى الثمالة من الحدث التالي فقد أصبح كل ما دونه نسيًا منسيًا، (بيقربلك سقف النشوة والحزن كمان)، هكذا هو الجهل كما وصفه، ولكن أي جهل؟ إنه جهل الغرق في الحالة الحالية وانتزاعها من سياقها الكلي.
تستطيع بسهولة أن ترى كثيرًا من الأفكار التي تحكم العالم الآن، تتشكل ببطء أمام عينيك من تلك الحالة التي وصفها الشاعر، كادر صغير (كادر الزوم كما أطلق عليه) هو ذاتك التي يدور حولها العالم بأجمعه، فالعالم ينبغي أن يرضخ لما أريد، متخففًا من كل قيد وكل التزام تجاه ذلك السجن المسمى ( المجتمع )، أنا الكون، أنا الحدث، أنا المركز، أنا رد الفعل، أنا القيمة، أنا السوق وأنا الرأي، قل لي بربك، كيف هو الانفعال مع كل حدث على مواقع التواصل الاجتماعي؟ وكيف هي القيمة التي تنبع من اشتهائك؟ أم كيف بها الحياة وأنت تدور في حلقات مفرغة أو بالأحرى تلهث وأنت تركض على العجلة الدوارة كالجرذ آملًا في أن تشبع يومًا لذاتك؟ يقول الممثل الأمريكي (جيم كاري): “أتمنى أن يحصل الجميع على الثراء والشهرة وكل ما يتمنونه كي يعلموا أن هذا ليس هو الإجابة”، لعله السبيل الوحيد كي يعلم الجميع بأن الإجابة أعظم من ذلك، إذ إنه لا سبيل لذلك إلا بأن تقتحم تلك الحقيقة كادرهم الضيق، فلا تدرك أنك إنسان إلا بعد أن تعيش حياة البهائم فلا تستسيغها، ولا تدرك بأن لذة الحق باقية وكل ما دونها فناء، إلا بعد أن تغرق في أوحال الباطل.
تقف أمام مرآتها تتأنق بملابسها التي تكشف أكثر مما تستر، وقد أنهت اللمسات الأخيرة من زينتها، دقات كعبها الدقيق تُسمع الأصم، تنزل إلى الشارع فتستوقفها تلك المرأة بوجه ممتعض متسائلة عما ترتديه، فتجيبها بكل حدة: “أنا حرة”، لِم لا؟! الكادر يسمح، ألا ترى بنات الغرب وهم يسيرون بملابس قد تكون أكثر تحررًا من هذه، ولكنها العقول الضيقة المتحجرة التي ما زالت تعيش في عصر الكهوف، خطوات قليلة بعد ويبادرها ذلك الشاب: “ممكن نشرب كوفي في أون سا ران؟”، تحمد الله فقد كان جوالها بيدها وقد رصدت الواقعة كاملة، أيحسب أنه في أمريكا؟ من هذا الصفيق ليفعل فعلته بكل وقاحة.
قف يا صديقي ولا تحسبن أني أدافع عن هذا الشاب، الذي من الواضح تمامًا أنه يحتاج إلى بعض التقويم، ولكن الأمر يفوق هذا قليلًا، إن ما شاهدناه على مواقع التواصل الاجتماعي من تراشق بين مؤيدي فعلته ورافضيها، لم يُظهر سوى مدى التحول الرهيب الذي أصاب هذا المجتمع ، فصار مسخًا، فلا هو يشبه المجتمع الغربي ذو أفكار تحررية ليبرالية، يمكن فيها للفتاة أن ترتدي ما تشاء، ليعرض عليها من يشاء أن ترافقه لاحتساء كوب من القهوة الأمريكية -سيئة المذاق-، وربما يستطيع خلالها أن ينال إعجابها لتتطور العلاقة، حتى يأتي يومًا -بعد عدة سنوات- ويتزوجا أو ينفصلا، ولا هو بذاك المجتمع الشرقي الذي ترتدي فيه الفتاة ما يلائم هذا المجتمع من لباس الحياء والحشمة، فإن توجه لها أحدهم بلفظة، قام عليه الرجال ومزقوه إربًا، بل هو مسخ راقص على السلالم، يعاني الأمرين في محاولة أن يحصل على مكتسبات كلتا الحالتين ضمن منظوره الضيق الملائم لمدى قدرته على أن يقترب من الصورة، ألم أقل لك جهلًا؟.
فما هي البدائل أمامنا؟ عودة إلى كلمات الشاعر (مصطفى إبراهيم) والتي ربما تحمل في طياتها إجابة جديدة:
أما لو اخترت إنك تبعد… وتشوف المنظر من بره…
حتغطي عينيك كادرات أكبر… وحاجات أكتر…
لكن أحجامها بقت أصغر… م الأول ميت مليون مره…
تكتشف إنك… مبقتش في حاجة تأثر فيك… ولا بتبكيك…
مبقتش بتزعل تقريبًا… والدنيا بقت أبيض فاقع…
يطرح أمامك الخيار الآخر، أن تنظر إلى الصورة كاملة، ألا تكتفي بذلك المنظور الضيق، ربما تبدو الأشياء أصغر، ولكنها حقيقة تظهر في صورتها الحقيقية، أصغر من أن تستغرق فيها، وتفني في رثائها وقتك وطاقاتك، ربما تبدو لك انفعالاتك أقل، حتى لتظن بنفسك الظنون، أماتت في الانفعالات والعواطف؟ ولكنها ببساطة القدرة أن تعطي لكل شيء حقه، أن تضع الشيء في موضعه، أن تتحلى بالإنسانية الحقة وأن تستمتع بالصورة كاملة، لن تتوقف طويلًا أمام الأحداث، لم لا وقد صدر حكمك؟ أهي ضمن منظومتي القيمية الكلية؟ لن تقف طويلًا أما القائل أو الفاعل، لن يشغلك قول البعض لمَ لا يفعلون، ولن تستثيرك عاطفتك الشخصية تجاههم، فالصورة الكاملة حقة، أو كما قال أرسطو يومًا عن أستاذه أفلاطون: “أحب الحق، وأحب أفلاطون، وأؤثر الحق على أفلاطون”.
ألا ترى صور الفتاة وملابسها؟ أليس غض بصره أولى؟ أو ليست النصيحة أجدى من التشهير بها؟ ماذا فعل الفتى سوى أنه طلب منها بكل أدب أن ترافقه وحين رفضت ذهب بكل رقي؟ وهل هذا من شيمنا؟ وضمن منظومتنا الأخلاقية؟ ولكنهن يعجبهن تلك المواقف حين يرونها في الأفلام، صدقت ولكن هل تتوجه بوصلتك القيمية والأخلاقية تبعًا لما يعجب غيرك؟ يا صديقي الصورة الكاملة تكفيك، وتعصمك من أن تكون جزءًا من ذلك المجتمع المسخ الذي يولد، فابحث عنها، وكفى.
اقرأ أيضًا :
يوم أكل الثور الأحمر