فن وأدب - مقالاتمقالات

النقد العبثي.. قراءة في كتاب “مدارات المجاز في الخطاب”.. الجزء الثاني

موضوع النقد المعاصر

تبدو مشكلة النقد الأدبي المعاصر في اتساع موضوعه حتى ليصعب معه الحديث عن موضوع محدد، صحيح أن النقد –من وجهة نظرية خالصة– يتناول النصوص الأدبية، لكن الأمر ليس بمثل هذه السهولة على مستوى الممارسة الفعلية، فالنقد الأدبي اليوم لا يُقدِّم تعريفًا واضحًا للعمل الأدبي، وهذا يرجع إلى تنوع الأشكال الممكنة بما يصعب حصره، أضف إلى ذلك أن النقد لا يفصل فصلًا حاسمًا بين “الأدب من ناحية وبين اللغة من ناحية أخرى، بل إنه ليس واثقًا بأن إجراء ذلك الفصل لازم أو مستحب أو حتى ممكن”.

لماذا أصبحت اللغة مشكلة في ذاتها؟

جانب من هذا الإشكال النقدي المعاصر يعود إلى اللغة والموقف منها، فاللغة أداة الأدب، ولم يتجاوز موقعها في الممارسة السَّوية دور الوسيط، فإنها –مع السيميوطيقا– بدت كأنّها بحر لا شاطئ له، لقد اتسع مفهوم اللغة وبات بمقدورنا النظر إلى كلّ شيء باعتباره لغة، وهذا يعني أنّ كلّ شيء يمكن تفسيره باعتباره أدبًا، وإذا سرنا مع هذه الفكرة إلى منتهاها –فيما يرى هوايت– فقد تصل بنا إلى أنه “لا شيء متاح للتفسير بوصفه ظاهرة أدبية على وجه الخصوص، وإنّ الأدب بمعناه المعروف لا وجود له، وإن المهمة الرئيسية للنقد الأدبي الحديث (إذا تابعنا الحجة إلى أقصى مداها) تتمثل في الإشراف على انحلاله”.

لم تعد اللغة مجرد وسيط يجسد الرسالة الأدبية لهذا العمل أو ذاك، كما لم تعد مهمة النقد اختراق هذا الوسيط للكشف عن الرسالة أو الوصول إلى المعنى، لقد غدت اللغة –مع النقد العبثيّ– مشكلة في ذاتها، إنها لا تكشف عن المعنى بقدر ما تعميه وتشتته، وغدا الناقد مشغولًا بسطح النص، وبتشوش الفهم، وألاعيب العلامة التي لا نهاية لها.

عبادة الصمت

هذا يعني أننا إزاء حالة عبثية، لا تصل بنا إلى أفق يمكن الركون إليه أو اعتماده باعتباره المعنى أو الحقيقة، وهذا ليس طريقًا مسدودًا فحسب، وإنما هو أقرب ما يكون إلى المتاهة، فالعبثيون لا يطرحون السؤال من أجل الإجابة عليه، وإنما يطرحون السؤال في ذاته أو يطرحون السؤال الذي لا إجابة عليه، وهنا يقدم “هوايت” استعارته الساخرة، أن هؤلاء يثرثرون حول الفراغ أو الصمت “وعبادة الصمت هي المصير المحتوم لمجال بحثي انفلت من قواعده الثقافية، لكن انفلات النقد الأدبي لا يزيد في طابعه العشوائيّ عن انفلات الثقافة الغربية بصفة عامة”.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لقد ترتب على ذلك كله أن تضخمت الممارسة النقدية وأحاطت نفسها بالأسرار، أصبحت غريبة أو لنقل إنها نزعت الألفة عن نفسها، كأنها هنا في موازاة الأدب، أو أدب على الأدب، وهذا ما يُصرِّح به “هارتمان”، الذي ينطلق من أن النقد “شكل فنيّ”!

العبث النقديّ والاقتصاد

magnifying glass book wooden table search discover magnifying glass book wooden table search discover 145647860 - النقد العبثي.. قراءة في كتاب "مدارات المجاز في الخطاب".. الجزء الثاني

ترتبط جهود النقاد العبثيين بالقوى الاقتصادية المتحكمة في المجتمع، إذ لم يعد الجهد الإنساني يكتسب قيمته من ذاته، وإنما بما يؤدي إليه، وهذا يعني أنه يستحيل على النصوص الأدبية أن “تزعم الحق في مكانة أنطولوجية متميزة، فالنصوص الأدبية سلع، شأنها شأن جميع الكيانات الأخرى القائمة في ساحة الثقافة، ولا تختلف عن الأشياء الطبيعية إلا بمقدار المال الذي تستطيع كسبه في اقتصاد المبادلات أو اقتصاد السوق”.

كان دخول الاقتصاد في المعادلة الثقافية أحد تجليات أزمة النقد، فما دام نشاطًا تقييميًا فإنه يخضع بطبيعة الحال لأسرار تحديد القيمة، وهذه يحددها الاقتصاد المتحكم في الحياة الحديثة، وشأن كل سلعة يضنّ بها أصحابها عن التداول والابتذال، فقد ضنّ النقاد العبثيون بمادتهم وأحاطوها بالأسرار والألغاز.

النقد في ظل التحديث والعلمنة

قد اتبع النقاد العبثيون عدة طرق للوصول إلى هذه النتيجة، منها مثلًا أنهم أضفوا على العمل الأدبي جميع صفات “الروح”، ليكون مقابلًا للمادة التي هيمنت على الثقافة الغربية، ومنها الطعن في الأعراف الثقافية التي تُقدّم “الثقافة” على “الطبيعة”، على نحو ما نجد لدى “فوكو” الذي اعتبر اللغة والألفاظ مجرد أشياء ضمن أشياء العالم، ومن ثم تغدو الثقافة والأدب سلعة، يمكن النظر إليها كما ننظر إلى أيّ شيء طبيعي، لقد عمل فوكو على تطبيع الثقافة أو بالأحرى إضفاء صفة الطبيعة عليها.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

نتيجة لذلك كله، رأينا الناقد العبثي ينحاز إلى الطبيعي مقابل الثقافي، ويحتفي بالظواهر المضادة للمجتمع، مثل الهمجية والسلوك الإجرامي، والجنون وكل ما يتسم بالعنف واللا عقلانية، وذلك مقابل النقد السّويّ الذي يرى أن مهمته الأساسية الدفاع عن الحضارة ضد كل هذه الأشياء.

لا يخفى عليك أن شظايا كثيفة من هذا الشطط أصابت نقدنا العربي، فرأينا وتابعنا مختلف هذه العلل: من توثين للنص، وتضخيم لأسراره، وإلغاز في لغة النقد، وتبنٍ مبالغ فيه لكل صَرْعة غربية، مما جعل القارئ العربي –فيما يقول شكري عيّاد– يطالع نقدًا لا يفهمه، فتركه لثلّة من المثقفين! كان ذلك انحرافًا لا مبرّر له تحت دعاوى التحديث والعلمنة، وهذا كله يحتاج إلى مراجعة.

مقالات ذات صلة:

الجزء الأول من المقال

كيف تشكل اللغة أفكارنا؟!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

هل الاستعمار ذكر أم أنثى؟!

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

اضغط على الاعلان لو أعجبك

مقالات ذات صلة